شعار قسم مدونات

صناعة "الإرهاب" في زمن المذلولين

blogs ثورة

هو الإذلال الذي يطارد العرب، شعوباً وأنظمة وحكاماً. هو نفسه الذي ينتفض ضده مواطنون ومؤسسات ومسؤولون في دول عانت مما زلنا نعانيه. تتمرد تركيا على الولايات المتحدة والنادي الأوروبي بتنويع حلفائها وخياراتها وتجنح إيران نحو سياسات تحفظ لها كرامتها السياسية والسيادية. أما الصين فاحترفت بناء قوة ناعمة تحيي فيها طرق الحرير استراتيجياً من حيث الاقتصاد والسياسة والتمدد العالمي. وهكذا روسيا والهند وكوريا الشمالية ودول عدة في أمريكا اللاتينية، أما حالنا فهو من ذل إلى ذل. ففي أقل من أسبوع على عقد ورشة المنامة التطبيعية ضمن خطة السلام الأمريكية التي تعرف باسم "صفقة القرن"، انضم السفير الأمريكي في إسرائيل ديفيد فريدمان ومبعوث الأبيض إلى الشرق الأوسط جيسون غرينبلات إلى بنيامين نتنياهو وزوجته سارة في تدشين نفق استيطاني أسفل القدس المحتلة يقودهم إلى المسجد الأقصى. 

 

هذا المشهد الذي يفيض بالإذلال بحملهم للمطارق وتحطيم الجدار لفتح النفق تحت لمعان إضاءة الكاميرات موزعين ابتساماتهم بهذا الإنجاز ليس وليد اللحظة بل يعود إلى سلسلة من الخضوع والخنوع العربي الرسمي المستمر عبر تنازلات تلو التنازلات وصولاً اليوم إلى تطبيع بالمجان لا لشيء إنما لمواجهة الفزاعة الإيرانية وإخضاع قطر وتركيا. هذه المواجهة التي ضاعفت من منسوب الإذلال عبر الابتزاز اليوم بصفقات السلاح ذات المبالغ الخيالية من أموال شعوب هذه المنطقة. فبدلا من أن تصرف على التنمية ورفع مستوى عيش المواطن، يجري إنفاقها على صفقات سلاح بهدف شراء ذمة الدول الكبرى حتى تغض الطرف عن انتهاكات حقوقية من اعتقالات وقتل خارج القانون إلى مجازر ترقى إلى جرائم حرب. وبالحديث عن الإذلال في العلاقات الدولية، لا بد من الإشارة إلى إسهام الباحث الفرنسي برتران بادي في كتابه "زمن المذلولين" الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.  

 

الربيع العربي، وفق الباحث، هو انتفاضة ضد إذلال الحكام ومن خلفهم الأوليغارشية الدولية التي تتعامل مع دولنا وفق منطق الزبائنية في مرحلة ما بعد الاستعمار التي تفترض تقاسم الخدمات غير المتوازن

ينطلق الباحث من نظرية علم الأمراض في العلاقات الاجتماعية ليسقطها على العلاقات الدولية، ليبحث في ما الذي وفر للإذلال موقعا بهذه الأهمية في اللعبة الدولية أو كيف تنشأ حالة مرضية في نظام دولي؟ ولماذا يؤدي الإذلال بهذه البساطة إلى مفاقمة العنف الدولي أو كيف يمكن تفسير طاقتها التدميرية؟ وللإذلال ردات فعل لها تداعيات استراتيجية، فهزيمة روسيا وخروجها مذلولة بعد نهاية الحرب الباردة ١٩٩١ جعلت فلاديمير بوتين يعي هذا الواقع ويبني سياسته الخارجية على استرجاع مكانة بلده التي خسرها والانضمام لمنظمة شنغهاي والبريكس. تركيا مثال آخر على إذلال تاريخي يعود إلى حقبة السلطان سليمان القانوني في ١٥٣٥ واضطراره للتوقيع على نظام الامتيازات الذي كان بداية لإعفاءات وسيادات وتراتبيات غير متكافئة. هذا الإذلال الذي تجلى مع انهيار السلطنة العثمانية بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية حيث تم إقصاء البلاد عن النادي الأوروبي وكذلك عن مجلس قيادة عصبة الأمم ثم الأمم المتحدة بحصرها في الدول المنتصرة. ولذلك بنت تركيا، في عهد رجب طيب أردوغان وأحمد داود أوغلو تحديداً، دبلوماسيتها للتحول من دولة طرفية إلى دولة مركزية.

 

أما الصين والإذلال فهما صنوان لا ينفصلان ابتداء من الحملة البريطانية عليها 1840 لمعاقبة الإمبراطور بسبب أوامره بإحراق شحنات الأفيون الذي كان ممنوعاً الإتجار فيه بالغرب لكنه مصدر للمداخيل البريطانية في مستعمرات شبه القارة الهندية. اضطرت الصين إلى توقيع أولى المعاهدات المذلة في 1842 تنازلت فيها عن هونغ كونغ وفتحت موانئها للتجارة الدولية ودفعت ملايين الدولارات تعويضات عن الأفيون وتعهدت بحماية الأجانب من المساءلة والمحاكمة المحلية. وللإذلال نماذج سواء بواسطة الانتقاص من المكانة أو بواسطة إنكار المساواة واعترضته دبلوماسية سيادية، أو بواسطة الإقصاء عن الحوكمة العالمية وقابلته دبلوماسية اعتراضية، أو بواسطة الوصم والتنديد بالآخر فواجهته دبلوماسية الجنوح. احترم الأوروبيون سيادة بعضهم البعض منذ صلح وستفاليا 1648 حتى اكتشاف الآخر "الخارجي" المغاير عرقياً وأيديولوجياً وثقافة. وهنا، النظام الوستيفالي لا ينطبق على هذا الآخر وإنما تتم معاملته وفق قواعد الاستسلام والوضع تحت الوصاية والاستعمار.

 

وفي مرحلة ما بعد الاستعمار، فإن الإذلال اتخذ أشكال الاتفاقيات والصفقات على قاعدة الحماية مقابل الدفع إضافة إلى توكيل هذه الدول مثل واقعنا العربي في تأمين تسليم النفط واحتواء موجات المهاجرين والسهر على أمن الحوض الشرقي للبحر المتوسط، وهو أمن إسرائيل. الربيع العربي، وفق الباحث، هو انتفاضة ضد إذلال الحكام ومن خلفهم الأوليغارشية الدولية التي تتعامل مع دولنا وفق منطق الزبائنية في مرحلة ما بعد الاستعمار التي تفترض تقاسم الخدمات غير المتوازن والانتقائي حيث يوفر "رب العمل" الحماية فيما يؤمن الزبون المنافع على مختلف أشكالها. هكذا يعمل الإذلال بوصفه محركاً اجتماعياً للنزاعات الجديدة التي تفرض نفسها بدورها وسيلة لمحو الإذلال. وأدى تحول فاعلين غير رسميين أو من غير الدول لكي يصبحوا فاعلين أساسيين يصعب التفاوض معهم يحتجون على الإذلال بطرق سلمية أو مسلحة. هكذا يولد الإذلال عنفاً، كردة فعل طبيعية، سرعان ما يجري وصمها بالإرهاب. وبقية الحكاية تعرفونها!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.