شعار قسم مدونات

لماذا فشل ديغول في عزل الثورة الجزائرية بالاقتصاد؟

blogs شارل ديغول

الجمهورية الخامسة التي تعيشها فرنسا اليوم تأسست على أرض الجزائر سنة 1958، وكانت المناسبة هي عجز الجمهورية الرابعة بكل وسائلها المادية والبشرية من القضاء على الثورة الجزائرية التي اندلعت قبل أربع سنوات، فقرر الأوروبيون بالجزائر الاستنجاد بأقوى شخصية فرنسية برزت في الحرب العالمية الثانية، وهي شخصية الجنرال ديغول الذي انتزع فرنسا من أنياب النازية خلال الحرب العالمية الثانية، انتزعها من فم هتلر الذي تجوّل في مدينة باريس قبالة برج إيفل محتلا لها، وعندما استسلم الجميع كان الجنرال ديغول يدير غرفة عمليات بالجزائر المستعمرة من أجل تحرير فرنسا من الاجتياح الألماني، ولهذا بات عودة الجنرال ديغول مطلب جميع الفرنسيين، والهدف هذه المرة هو القضاء على الثورة الجزائرية التي انتشر لهيبها في جميع مناطق الجزائر الشاسعة، إنها ثورة دوّخت فرنسا أكثر مما دوختها الحرب العالمية الثانية.

ديغول يعود بطلب من الجنرالات ويخاطب الجميع: لقد فهمتكم

في 13 مايو 1958 تمرّد جنرالات فرنسا في الجزائر على قادة باريس ونادوا بالجنرال ديغول رئيسا مقابل إنهاء تمرّدهم، ومن شرفة المبنى العام للحكومة في الجزائر العاصمة أعلن الجنرال "ماسو" أن الجزائر أصبحت في عهدة الجيش في الجزائر لا سلطة باريس، ونادى بحياة ديغول تحت هتافات عشرات الآلاف من المستوطنين، ليأتي الرّد سريعا من الجنرال ديغول أنه مستعد لتلبية أي نداء من أجل انقاذ فرنسا من انهيار مؤكد، وتحت ضغط الجيش الفرنسي الذي انتقل من الجزائر وعسكر في جزيرة كورسيكا استعدادا لاجتياح باريس في حالة عرقلة البرلمان تسليم السلطة لديغول.. استدعى الرئيس الفرنسي رينيه كوتي الجنرال ديغول لتولي رئاسة الحكومة الفرنسية في الفاتح من يونيو 1958، مدعّما إياه بصلاحيات استثنائية لمدة 6 أشهر، ثم كلّفه بإعداد دستور جديد للجمهورية الفرنسية الخامسة.

كان مخطط الجنرال ديغول هو القضاء على الثورة الجزائرية نهائيا في حدود عام واحد من اعتلائه الحكم، وكان يأمل أن يكون احتفال 14 جويلية 1959 مميزا، يعلن فيه النصر التام

وما إن لبس ديغول بدلته الجديدة كرئيسا للحكومة الفرنسية، أقّل طائرته متوجها إلى الجزائر ليخاطب أصحاب الحناجر التي بحّ صوتها هتافا بحياته، ومن نفس شرفة المبنى العام للحكومة بالجزائر العاصمة يقول قولته الشهيرة "لقد فهمتكم" أمام عشرات الآلاف من أنصاره، كان ذلك يوم الرابع من يونيو 1958، ليعود إلى العاصمة باريس على جناح السرعة من أجل ترتيب بيت الجمهورية الجديدة، أعدّ فيها دستورا جديدا ثم نظم انتخابات رئاسية أوصلته إلى قصر الإليزيه، بسلطة قوية تزداد جبروتا في حالة الطوارئ، والهدف هو القضاء على الثورة الجزائرية.

مشروع قسنطينة.. إغراءات بـ100 مليار فرنك والجزائريون يفضّلون التصعيد..

مباشرة بعد تنصيبه رئيسا للحكومة بسلطات استثنائية بعيدة عن مساءلة البرلمان، وقبيل تبوّءه منصب رئيس الجمهورية، عاد الجنرال ديغول إلى الجزائر ذات الشأن الكبير في سياسته، لكن هذه المرة ليس من أجل اللقاء بالمسؤولين، وإنما من أجل زيارة أغلب مناطق الجزائر التي تخوض حربا شرسة، ومخاطبة سكانها المحليين والأوروبيين سواء، شارحا لهم سياسته الجديدة معترفا لهم بالتقصير في منح السكان الجزائريين (الأهالي) حقوقهم الطبيعية، وفي يوم 04 أكتوبر 1958 وفي ختام جوالاته الميدانية، أعلن في مدينة قسنطينة عاصمة الشرق الجزائري ومركز ثقل الثورة عن مشروعه الاقتصادي الضخم، كفيل بحل جميع مشاكل الجزائريين في ظرف وجيز، كيف لا وهو يهدف إلى خلق ربع مليون وظيفة للجزائريين، وتوزيع ربع مليون هكتار من الأراضي الزراعية على الفلاحين، وبناء ربع مليون مسكن جديد، مع الالتزام بتعليم ثلثي أبناء الجزائريين بعدما كانت بنسبة العشر، أما سياسيا فقد أعطى للجزائريين حق الترشح والتصويت بشكل معادل لما هو ممنوح للفرنسيين.

مع عودة ديغول إلى باريس، انطلقت ورشات البناء في كل مكان من أرض الجزائر، وغدت الجزائر كخلية نحل تنشط صباح مساء، لكن الجزائريين اعتبروا كل هذه الاغراءات "لاحدث"، فالجزائر أصبحت تملك ثورة منظمة ومهيكلة، وهي ليست بحاجة إلى برنامج تنموي يزيد من ارتباطها بالمستعمر، وإنما بحاجة إلى الانعتاق من الذل والعبودية الذي استوطن فيها لمدة 130 سنة، ولهذا كان جواب الجزائريين هو تشكيل حكومة جزائرية مؤقتة بالقاهرة شهرا ونصف الشهر بعد إطلاق ديغول "مشروع قسنطينة" الاقتصادي، كان ذلك يوم 19 سبتمبر 1958، أما العمليات العسكرية والفدائية فازدادت ضراوتها وازدادت خسائر الجيش الفرنسي، بل ونقلت الحرب إلى باريس نفسها في صيف 1958.

اضطرت فرنسا للاستنجاد بالحلف الأطلسي لكن ذلك لم يزدها إلا خسائر، لم تنفع طائرات سيكورسكي من دكّ معاقل الثوار، وبالموازة مع ذلك قام ديغول باغلاق الحدود الشرقية والغربية بواسطة مشروع ضخم انفق عليه الملايير من الخزينة العمومية، أنه مشروع خط شارل موريس الذي عزل الحدود مع تونس شرقا والمغرب غربا بالأسلاك الشائكة المكهربة بالضغط العالي، والدوريات المكثفة ومراكز الحراسة المتقاربة، لكن الثورة لم تزداد إلا لهيبا، وكانت آخر محاولات ديغول وهو يريد تحقيق مكسب عسكري هو إرسال مزيدا من الجنود إلى الجزائر الثائرة، فمنذ اعتلائه السلطة قام برفع عدد الجنود من 70 ألف سنة 1954 إلى 900 ألف جندي، مع تمديد مدة الخدمة من 18 شهر إلى 30 شهر.. مما رفع تكاليف الحرب إلى 02 مليار دولار سنويا وأصبح يطلب القروض من الدول لتمويل حربه على الجزائر.

ديغول.. من إنقاذ "الجزائر الفرنسية" إلى إنقاذ فرنسا "الأم"

كان مخطط الجنرال ديغول هو القضاء على الثورة الجزائرية نهائيا في حدود عام واحد من اعتلائه الحكم، وكان يأمل أن يكون احتفال 14 جويلية 1959 مميزا، يعلن فيه النصر التام على الثورة بعدما كان يظن أنه سيشتريها اقتصاديا، ويحوّلها إلى هيكل بلا روح يسهل الانقضاض عليها، ولأنه لا يثق في التقارير التي تصله، كان يحبّ أن يسمع مباشرة من الواقع الميداني حتى يطمئن قلبه المليئ بالخوف على مصير فرنسا، قام بزيارة تفقدية للمدن الجزائرية سنة 1959، تحدّث مع السكان ومع الضباط البسطاء والموظفين من الرتب الدنيا، وبعد استبيان موّسع أصيب ديغول بذهول كبير، الجميع بصوت واحد: لا حل سوى وقف الحرب، حينها أدرك ديغول أن التقارير التي تصله حول رفض الجزائريين للثورة التحريرية بعد اصلاحاته الاقتصادية هي تقارير كاذبة، وبالتالي دقت ساعة الحقيقة، وهي التفكير في انقاذ فرنسا الأم من الانهيار، بدلا من الجري وراء سراب إنقاذ "الجزائر الفرنسية"، ولأن ديغول يمتاز بالشجاعة والموضوعية، أعلن في خطابه الشهير بتاريخ 19 سبتمبر 1959 عن حق الجزائريين في تقرير مصيرهم بأنفسهم.

قادة الجيش الفرنسي ينقلبون على ديغول.. لكن بدون جدوى

كانت خيبة ضباط الجيش الفرنسي في الجزائر كبيرة على من راهنوا عليه لإنقاذهم، ولأنهم يعتقدون أن الجزائر حصنا قويا للتأثير على فرنسا وتغيير سياستها، قاموا بمحاولة انقلابية جديدة يوم 24 ديسمبر 1960، أو ما أطلق عليه بأسبوع المتاريس، لكن هذه المرة ضد الجنرال ديغول نفسه، لكن الجنرال كان بالمرصاد لهم، لأنه هذه المرة يحارب بعقيدة الحفاظ على فرنسا من الانهيار الشامل وليس بعقيدة الحفاظ على مستعمرة اسمها "الجزائر"، فخاض ضدهم حربا استباقية قام من خلالها بعزل كل قادة الجيش الذين جاءوا به إلى الحكم، والذين هم أنفسهم من انقلبوا عليه، في حين أطلق مسارا تفاوضيا مع جبهة التحرير الوطني في "ايفيان" السويسرية، انتهى بالإعلان عن وقف إطلاق النار يوم 19 مارس 1962، تبعه استفتاء لتقرير المصير يوم 03 جويلية 1962، وبهذا تحررت الجزائر من استعمار عمره 130 عاما، وتحررت فرنسا من كابوس الانهيار الشامل بعدما راهنت على سياسة الترهيب عن طريق القوة العسكرية، وسياسة الترغيب عن طريق محاولة شراء ذمم الجزائريين بالاقتصاد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.