نجحت الثورة السورية بتحدي الانفجار، ليشكل اشتعالها تحدياً يدمر حاجز الخوف -العقبة الكؤود- الجاثمة على صدور السوريين منذ فشل الإخوان المسلمين في أحداث الثمانين، تجاوزت جماهير الثورة مرحلة الإقلاع الخطيرة بنجاح، كما تفوقت الثورة السورية بسرعة الانتشار واستقطبت الجماهير من مختلف شرائح المجتمع، ونزلت معاً إلى الميادين والساحات العامة لتقول كلمتها "ارحل" بصوت واحد دون مواربة ولا انقسام، إلا أن الأخطاء الجثام التي ارتكبها المحسوبون على الثورة عرقلت حركة الاستمرار والانتشار على ذات الوتيرة التي بدأت بها، وتحولت الأخطاء إلى عصي يضعها أعداء الثورة في العجلات كلما اقترب النصر، أو كلما حاولت الصعود والارتقاء.
وثِقت جماهير الثورة برأي من لا يستحق الثقة، وتعاطفت مع من كان سبب انحراف مسيرها لمجرد قبوله أن ينتسب للثورة في الداخل أو الخارج، وبررت له الأخطاء حتى جر خلفه الأتباع ثم أوردهم جميعاً المهالك، وقلَّ من استطاع العودة والانطلاق من جديد ضمن قالب الثورة العفوي، بل تشعبت به التيارات الفكرية والمذهبية حتى أجهدته ولم يبق له خيار إلا الوقوف والاعتزال أو الرحيل، لن ننسى كيف قدمت جماهير الثورة بعفويتها التقي الورع المحافظ في ظاهر على الرواتب والشعائر وحولته لشرعي أو قاضي يفتي عوام الناس بأخطر المسائل مثل الدماء والأموال، ورفعت المخلص للثورة على كرسي الحكم وجعلت منه قائداً أو أميراً يملك رقاب الناس، ويدير شؤونها، ويتحكم بمصيرها رغم ضحالة مَلَكة القيادة والإدارة لديه، ومكث غير بعيد من أتقن استخدام وسائل التواصل ليتصدر العمل الإعلامي السلاح الأخطر في الحروب الحديثة، وملك منبراً تلتف حوله الجماهير المتعطشة للأخبار، واللاهثة خلف التحليلات وهي غارقة في بحر من الدماء ترنو قشة أو جذع يخرجها مما هي فيه، والمسكين من ملك تلك الوسائل الإعلامية يهرف بما لا يعرف، مسحوراً بعدد المشاهدين والمتابعين والمعجبين لديه.
كانت الجماهير بحاجة ماسة للانفجار وكسر حاجز الخوف، ساهم ذلك في دفع عجلة الثورة إلى الأمام، إلا أنه لا بد للثورات من التخطيط الاستراتيجي والإدارة والتنظيم، وتحتاج أيضاً للمتابعة والتوجيه |
بيئة الفوضى الخلاقة هذه تولد جيلاً مندفعاً وصلباً لا يهاب المخاطر، كان من المستحيل أن توجده بيئة مثالية رتيبة هادئة، سرعان ما يتحولون لأبطال بزمن قياسي يحيط بهم هالة من الكاريزما الساحرة، وقليلا منهم من يملك مؤهلات تخوله إدارة الملفات الشائكة بعيداً عن الضغوط التي تسقطه في فخ الارتزاق والعمالة، ولا يختلف كثيراً حال التاجر الذي تولى حقائب الإغاثة، والضابط المهمل في دول اللجوء، والشيخ العالم المتهم بالفرار والملاحق من قبل الجهاديين بتهمة التخذيل والطعن بالجهاد الشامي، والمعلم الذي يجاهد لبقاء التعليم سداً في وجه زحف الأجيال نحو العسكرة، والطبيب الذي تتنازع في داخله شتى أنواع الخواطر، والصيدلي الذي يبحث عن حبة اسبرين في أكوام الأدوية المهربة مجهولة المصدر، فئات وكوادر لم تنتظم ضمن فعاليات حقيقية منتظمة متكافلة، تساعده في اتخاذ قراراته، وتحقيق أهدافه، وحل مشكلاته، بل تمكنه وتدربه ليقود نفسه ويدير موارده المادية والمعنوية المتاحة، ويبني فريق قادر على العمل الجماعي، ويحشد لمشروعه بانتظام، ويسعى لأن تشكل تلك الفعاليات قوة تردع من يحاول العبث، أو تأخذ بيده في حال جانب الصواب.
يبقى أن نشير إلى من أصيب بعقدة -ثوار 2011 م- ممن لم يتقبل فكرة تقديم ذوي الاختصاص على الأسبق الاقل كفاءة، ووضعوا أنفسهم على منصة مثالية عالية يصعب الوصول إليها، وجعلوا من أنفسهم حكاماً على الوافدين الجدد من المنشقين، هذه العقلية المغلقة سببت التنافس بين الأسبق والأصدق والأحق بإدارة مختلف ملفات الثورة الداخلية والخارجية السياسية منها والمدنية والعسكرية، سرعان ما تحول التنافس لتدافع مقيت يخلق بيئة موبوءة بالأحقاد، لا يسمح للفرقاء فيها بتجاوز الخلافات فيما بينهم، وكان الرهان الأكبر على استقطاب الموارد وتأمين الحد المعيشي الأدنى للحاضنة الشعبية الثورية في المناطق المحررة، كل ذلك كان سبباً لتأخر النصر وكاد يهدد بقاء الثورة واستمرارها.
الفصائلية داء آخر قسم الناس بين رفيق (الأخ) الملاك الذي لا يخطئ، والآخر -باقي البشر- المخطئون المعتدون البغاة، أو من أجبرته الظروف على أن يكون في المعسكر الخاطئ؛ إن أحسنوا الظن به طبعاً، لكن سرعان ما يسقط القناع عن الأخ إن اختلفت المصالح ويتحول من رمز إلى عدو يجوز قتاله، وتسقط عنه الهالة المتخيلة المبالغ بها أو التي لا وجود لها أصلاً، إلا أن استشهاد أحدهم كفيل بغسل كل ذنوبه وعودته لمنصة الارتقاء في دوامة مملة، لا يقود الجماهير فيها إلا عاطفتها تنعيه وتقدسه وتقول فيه ما ليس فيه، وتمجده بذات الألسن التي كانت بالأمس تنتقده مستهزئة به وبأعماله ومبادراته، وهو الذي كان هدفاً مشروعاً على وسائل التواصل تلقى عليه التهم جذافاً، مستباح الدم والعرض على تلك المنصات في العالم الافتراضي التي لا تميز بين البطل والصعلوك، بين المتفاني والمرتزق، مما أتاح للعملاء التصدر وقيادة الجمهور إلى عدة نكبات، توزعت على خارطة الثورة الزمانية والمكانية أعظمها المصالحات والقتال الداخلي.
نعم كانت الجماهير بحاجة ماسة للانفجار وكسر حاجز الخوف، ساهم ذلك في دفع عجلة الثورة إلى الأمام، إلا أنه لا بد للثورات من التخطيط الاستراتيجي والإدارة والتنظيم، وتحتاج أيضاً للمتابعة والتوجيه والمحاسبة إذا اقتضى الأمر، تحتاج لجسد مبني على المؤسسات الفاعلة يأوي إليها المنشقون عن الأنظمة الوظيفية، ويتحولون فيه إلى كوادر منتجة، تشجع الغير على ترك مركب النظام المجرم المتهالك، وتسرع بدمجها في الثورة، وتحول بين تحويلها لمعاول هدم تنهش في الخاصرة الثورية الرخوة، تحتاج الثورة إن أرادت الاستمرار والانتصار لمؤسسات ثورية حقيقية، يقودها أهل الاختصاص من كافة المجالات، ويُعينون وفق الكفاءة لا المحسوبيات، لا مجموعة مرتزقة تتحكم بهم يد الداعمين، وتسييرها وفق مصالحهم من الخارج.
رغم كل السلبيات التي ذكرت تبقى المناطق المحررة أفضل بكثير من تلك التي تديرها المليشيات الطائفية والعصابات في مناطق تمركز النظام، ولولا القصف الممنهج والتدمير الذي حاصر مايقارب أربعة مليون نسمة في بقعة صغيرة على الحدود التركية لتحول الشمال على الحدود التركية إلى مأوى للفارين من بطش النظام السوري، والفارين من التجنيد الإجباري (القتلة المأجورين) في صفوفه، تحتاج الثورات اليوم لمن يأخذ بيدها، ويدلها على طريق الانتقال السياسي، تحتاج للمفاوض والحليف، تحتاج لمراكز الأبحاث والدراسات، تحتاج لكوادر مطلعة مدربة تنقلها من العشوائية إلى الدولة كوادر رحيمة قادرة على مراعاة الناس، وتقدر ظروفهم، وتتفهم الوضع الذي مروا به ويأخذ بيدهم دون تكبر أو استعلاء.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.