شعار قسم مدونات

هل تكفي الترجمة وحدها لإقلاع حضاري؟

BLOGS كتب

لن يخوض هذا المقال في بيان أسباب قوة حركة الترجمة في العالم الغربي وأسباب ضعفها في العالم العربي، أو الحديث عن تعريفها وتفصيل أنواعها، لكن عوضا عن أفضل طرح مجموعة من التساؤلات، وأولها هذا التساؤل: أين مكمن المشكل؟ طرح مثل هذا التساؤل كفيل بالتنبه إلى ضرورة توحيد الجهود بحثا عن تشخيص معقول لأصل الداء، فهل يكمن المشكل في نقص يعانيه العالم العربي من حيث الثروات الطبيعية؟ أم يكمن في أن العقل العربي عقل عاجز عن مطاولة الأمم الأخرى على مختلف المستويات، الثقافية والاقتصادية والسياسية؟ أم يكمن في كينونة الإنسان العربي نفسه، كأن يكون في طبيعته يصلح لأمور لا يصلح لها الإنسان الغربي؟ أم يكمن في هذا النقص المعرفي الذي تشهده المنطقة العربية منذ عقود بحيث لا يكمن استثناء قطاع معين من القطاعات الحيوية؟ هل السبب في هذا الانكماش يرجع بالأساس إلى فلسفة الأنظمة السياسية حكومة ومعارضة؟ وإذا كان ذلك كذلك، فهل هو انكماش عن جهل منها أم إنها تتعمد ترك الحال على ما هو عليه لحاجة في نفس يعقوب؟

من غير شك أننا في هذا العرض لن نتطرق للإجابة عن هذه الأسئلة، إذ من شأن ذلك أن يشط بنا عن الموضوع الهدف، لكن من غير شك أيضا أن مكمن الداء واضح، يكمن في النقص المعرفي الذي لا تخطئه عين ملاحظ. بينما يشهد الواقع والتاريخ أن الإنسان العربي إنسان سوي، قادر على الإبداع والإنتاج وبناء حضارات خلاقة إن هو حقق لنفسه ظروفا مواتية في أجواء مساعدة. صحيح أن الهشاشة تشمل مختلف القطاعات الحيوية في المجتمع، اقتصاديا وثقافيا وسياسيا، لكن وعلى الرغم من ذلك فإن الخلل يكمن بالأساس في غياب المعرفة، فهو أصل الداء ومصدر الوباء، ولو عولجت هذه النقطة كما ينبغي العلاج، لحصل الإقلاع الحضاري دونما شك، ذلك أن المعركة التي ما فتئت تنشب نارها منذ الأزل، هي معركة الوعي، فحيثما وجد الوعي ساد الرخاء ونما الخصب، وحيثما انتفى تفشى الجهل واستشرى المرض.

الرهان الذي يواجهه العالم العربي اليوم نحو إقلاع حضاري هو رهان المعرفة، أي بناء مجتمع معرفي يحشد كل قواه الإنسانية والطبيعية لتحقيق وسط يتسم بمقومات حضارية تتطلع لمنافسة الأمم المتقدمة في مجال الصناعة والتطور التكنولوجي

فلو أن العالم العربي يمتلك زمام المعرفة، لتأتى له إصلاح باقي الأركان التي تعد دعائم المجتمع وركائزه، إذ "من المسلم به أن المعرفة تمكين للفرد والمجتمع، ونقص المعرفة ضعف يفضي إلى تبعية" غير أن الرهان وموضع التحدي يكمن في مدى قدرتنا على تملك المعرفة تحكما في مقاليدها، وفي نظري أن تحقق هذا لا يتم إلا بإحدى طريقتين:

الطريقة الأولى وهي إبداع المعرفة وإنتاجها ذاتيا. إلا أن تمثل هذه الطريقة أمر شبه مستحيل، ذلك أنه مخالف لمقتضيات سنن الوجود، وحتى لو أمكن حصوله فرضا، فإنه سيستغرق من الوقت زمنا متطاولا جدا، يوازي في امتداده ما استغرقه الإنسان من زمن ليصل إلى ما وصل إليه اليوم من تطور معلوماتي يفوق الوصف، وعليه فإن هذه الطريقة الأولى يتعذر تحققها إلا بإحقاق الطريقة الثانية، وهي نقل المعرفة من خلال الترجمة، ومن ثم البناء عليها واستثمارها لوضع أسس معرفية خاصة ذات طابع أصيل متسم بالمحلية، وهنا تصل مستويات التحدي إلى أعلا درجاتها فـ"القدرة على اكتساب المعرفة نقلا عن الآخر، قرين القدرة على توليد المعرفة بكل أشكالها إبداعا ذاتيا لما في ذلك الاستعادة الإبداعية للمعارف التقليدية والارتقاء بها واستثمارها وظيفيا"، ولعل هذا المعطى بالذات ما يفيدنا به تاريخ تطور العلوم ونشوء الحضارات، فلا بناء يأتي من فراغ. ذلك أن أزهى عصور الحضارة الإسلامية كان بفضل ترجمة العلوم عن اليونان والهند وفارس، فنقلت الحضارة الإسلامية واستثمرت وطورت وبنت واستخلصت من ذلك الخليط المترامي من المعارف معرفة إسلامية خالصة، ثم دار الزمن دورته، فدالت الدول، وقال التاريخ قولته، فانهارت الحضارة الإسلامية، وعلى أنقاضها أنشأ الأوروبيون حضارة أخرى بفضل الترجمة كرة أخرى، فنقلوا واستثمروا وطوروا وبنوا واستخلصوا من ذلك الخليط المعرفي حضارة غربية ما زال العالم يستهلكها حتى اليوم.

فالرهان الذي يواجهه العالم العربي اليوم نحو إقلاع حضاري هو رهان المعرفة، أي بناء مجتمع معرفي يحشد كل قواه الإنسانية والطبيعية لتحقيق وسط يتسم بمقومات حضارية تتطلع لمنافسة الأمم المتقدمة في مجال الصناعة والتطور التكنولوجي، ذلك أن "الحضارة الجديدة أو الطور الحضاري الجديد الذي يحدد لنا معالم التحدي والمستقبل الذي يتعين علينا أن ننشده ونحشد القوى والطاقات من أجله -هو حضارة عصر المعلومات وبناء مجتمع المعرفة: الاقتصاد والإنسان والثقافة"، وهذا البناء لا يتأتى دون أساس، بل لا بد من الاستفادة من علوم من تقدمنا، فالتحدي يكمن في استيعاب ما وصلوا إليه؛ لأن هذا النوع من الاستيعاب يعد شكلا من أشكال وضع الأساس لهدف أسمى يتجلى في الإقلاع المعرفي، عبر استثماره في بناء معرفة محلية تتسم في الوقت نفسه بطابع عالمي، ولن يتم هذا لمجتمع إلا إذا أقبل على الترجمة بوعي مؤسساتي وبإدراك تام لنجاعة هذه الخطوة، ثم باستحضار كامل لشروط الترجمة ومعاييرها المنصوص عليها.

فالترجمة إذن أول ما ينبغي استحضاره عند وضع مخطط أولي نحو مشروع بناء مجتمع معرفي، "فالمعرفة أهم رأسمال، ومن ثم نجاح أي مجتمع يتمثل في إدارة المعرفة: التحكم فيها إنتاجا وصياغة واستيعابا واستثمارا واستغناء وتجديدا"، شيء آخر، لو افترضنا مثلا أن حركة الترجمة ازدهرت في مجتمع لم يقلع بعد حضاريا كالمجتمع العربي، ودون أن يكون هذا المجتمع مجتمع معرفة (عندما نتحدث عن متجمع معرفي، فإن القصد يتوجه إلى مجتمع تعرف كل مجالاته على مختلف الأصعدة حيوية لا تكل عن العمل ولا تهدأ عن الإبداع)، فإن هذا المجتمع سيحكم عليه بأن يظل مجرد تابع يلهث منقطع الأنفاس خلف الأمم المتقدمة صناعيا، فالمعرفة تتزايد وفق وثيرة سريعة بمعدلات تعانق السحاب كل ساعة، ودور النشر تلد الملايين من الكتب كل دقيقة، وقد بلغ هذا الأمر من الذيوع والانتشار بحيث لا يحتاج إلى إقامة دليل عليه، وإزاء هذا الوضع، يستحيل أن يتابع مجتمع ما، ترجمة كل المعارف المتجددة دوما؛ بله أن يستطيع قراءتها قراءة واعية؛ لذلك كان لا بد من فعل الترجمة بوصفه خطة هامة في البداية ريثما يتعافى المجتمع من مرضه، ويصبح قادرا على بناء معرفة خاصة به، فإن فعل، فإن الأمر لا يعدو أن يكون مسألة وقت حتى يصل إلى مرحلة ينافس فيها المجتمعات الصناعية الكبرى، بحيث يصبح له الدور الوازن في صنع القرارات المتحكمة في مصير العالم، فإذا أدلى برأي في المحافل الدولية كان لرأيه اعتبار وآذان صاغية.

لماذا قلنا هذا؟ لقد كان جوابا على افتراض مضمر، هل تكفي الترجمة وحدها لإقلاع حضاري؟ وقد تبين أنه لا بد لفعل الترجمة من رافد آخر هو المعرفة؛ ببساطة لأن المعرفة تسمح بامتلاك مزيد من المعرفة، إذ هي أشبه بشجرة ولود، ما تلبث ثمارها تتلاحق بانتظام لا تتخلف، إلا أن يصيب الأرض قحط بانقطاع الغيث، وهذا بالضبط ما تنبه إلى شوقي جلال في كتابه "الترجمة في العالم العربي، الواقع والتحدي"، فقال: "إن الهيمنة ستكون حق مجتمعات المعرفة، فهي بؤرة وركيزة ومصدر عملية توليد المعرفة والإنتاجية، وهي المصدر الفعال للثروة والسلطة والرموز أي الثقافة "، فالمجتمعات التي تفرض حضورها الوازن في العالم، هي مجتمعات أشبه بطائر عملاق يستهل مشواره في التحليق بجناحين: جناح المعرفة، وجناح الترجمة.
———————————————————————————————————————–
المراجع:
شوقي جلال، الترجمة في العالم العربي، الواقع والتحدي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.