إنَّ الملك سبحانه عندما خلق هذا الكون جعل هناك نظاما دقيقا سرمديا أبديا لا اعوجاج فيه، يضبط جميع الأشياء التي تحيط بنا، أو التي نصطدم بها يوميا، ووضع فيها رسائل ورموز وعبر وعظات لجميع الكائنات التي تمتلك التأمل والتفكر والتدبر، ولكل مجتهد نصيب، قد تكون هذه الرسائل إجابة لسؤال قد طرحته أنت من قبل، أو قد تكون بصيص نور لتحقيق أهداف ظنتها من نسج الخيال، أو سفينة نجاة من حيرة الزمان والمكان، أو دليل هداية من تيه القلب والأذهان، أو أنس حب لنوايا الخير في الوجدان.
فما نشاهده في ثنايا جدائل الأيام الحالكة: أشخاص، أشجار، أنهار، بحار، حجارة، أيضا فنجان قَهوتك الصباحي، بل ذلك الخليط المركب من بعثرات روحك وعقلَك الفوضَوِي، وتلك الأَصوات والذبذبات التي تحيط بنا كصوت الكأس عند ارتطامه في الأرض مثلًا، وصوت المطر والشجر والحجر، وبكاء الطفل، وشجب الشارِع، وقَذائف المدافع.. كلها عبارة عن شيفرة رمزِية متصلون بِها، بل قل رسائل كونية مترابطة جزيئاتها تجاوزت الثّقَافَات والحدود الجغرافية، علينا أن نلاحظها أولا، ثمّ نتأملها ثانية تأمّلا عميقا، وهذا لا يكون إِلا بِفَك طلاسمها المبطنة بين لجج بحر زواياها الهندسية الخَارجيّة، وإِيقَاعاتها الموسيقية، وترجمات لغَتها الشّعورية الداخلية.
من مخرجات هذا النظام أن يستشعر الإنسان وجود الله -عز وجل- وعظيم خلقه سبحانه، الذي بدوره يصبغ على الإنسان صبغة التوحيد، والإيمان، والتدبر، والخشية، والشكر، والصدق، والطمأنينة |
قَال تعالى مخاطبًا العقول: "إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ". وقال تعالى داعيًا لتدبر: "أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ" الآيةَ. فلا يعقل مطلقًا أن يخلق الله -عز وجل- هذا الكون الضخم وما فيه من كائنات حية، ومخلوقات جمادية هكذا.. دون هدف وحكمة منه سبحانه. أجل، فهناك آيات وحكمٍ، وَرُمُوز إِيحَائِيَّةٍ جليلة لخلق هذه المخلوقات العظيمة بدء من حركة الكون ومجرّاته الضخمة وأصواته الهائلة، ووصلًا لحركة العين الهادئة، ودبيب النمل في الليلة الحالكة.
جميع هذه الأشياء المخلوقة تشكل شريط مدخلات متتابع الزمان والمكان، علينا أن ننظر إليه بنظام كامل غير مجزّأ، ووفق رؤية قلبية فذة، وحصافة فكرية ثاقبة، حتى نستطيع إدراك وفك شيفرته المعقدة، واستنتاج رسائله المبطنة، فهو يحمل في أبعاده العميقة أفاق عملية تشكل خارطة الطريق، فكلما نظرنا لهذه المدخلات وفق نظام كامل تكون النتائج أفضل وأكثر ذكاء على صعيد التطبيق، أما إن نظرنا إليها نظرة عابرة مجزئة دون تأمل وتحليل عميق، تكون النتائج بائسة لا سبيل فيها لتحقيق.
النظام الكامل هذا يتكون من عدة محطات داخلية صغيرة تكون هذا النظام: كالمدخلات، والمعالجات، والمخرجات، والاستثمار. فالمدخلات عبارة عن جميع ما يمكن إدراكه بالسمع، والنظر، والشم، واللمس.. فكلما كانت الحواس قوية والشواهد متكررة، كلما كانت المدخلات أكثر دقة وشفافية لخدمة المحطة التالية. ومن ثم تأتي محطة المعالجات وهي عبارة تنقيح هذه المدخلات وتعمق فيها وفك شيفرتها، وهذه من أصعب المحطات؛ لأنها تحتاج إلى نباغة وفطرة تحليلية، وقوة إدراكية، وممارسات عملية. بعدها تأتي محطة المخرجات، وهي المحطة ما قبل الأخيرة، ويقع على عاتقها إخراج العمليات التي تمت معالجتها على شكل جمل وعِبارات، أو قرارات بِلُغة الإنسان يسهل عليه وعلى الجمهور فهمها، حتى يتمكن من توظيفها بوقتٍ ومكانٍ وهدفٍ مُناسب، أما الاستثمار فهو المحطة الأخيرة من النظام الكامل، وهو عبارة عن توظيف وإدارة المخرجات بما يوافق الضوابط الرّبانية والأهداف الحياتية والرؤية الذاتية.
من مخرجات هذا النظام أن يستشعر الإنسان وجود الله -عز وجل- وعظيم خلقه سبحانه، الذي بدوره يصبغ على الإنسان صبغة التوحيد، والإيمان، والتدبر، والخشية، والشكر، والصدق، والطمأنينة، التي جميعها تشكل الهدف الأسمى والغاية العظمى لوجود هذا الكون، بل لوجودنا أنا وأنت، وهذه الغاية هي أفراد العبودية لله -عز وجل-. قال تعالى: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ". على الإنسان أن ينظر لهذه للأشياء من حوله بنظرة تأملية ثاقبة، وبعقل متدبرٍ، ولسان ذاكرٍ، وبقلب مسبحٍ، وليتقي الله في جميع حركاته وسكناته ونظراته، فتدبرك إن لم يجعلك تتقي الله وتذكره فبأس التدبر هو، وكذلك قراءتك، وكتاباتك، وسائر مواهبك وعلومك. فعند بلوغك درجة التقوى فيما تملك؛ ستنقاد إليك جميع هذه الرسائل والمخلوقات الكونية انقيادًا يسهل عليك تحقيق وانجز جميع خططك ومهامك على هذه الأرض. قال تعالى: "إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ".
هذه المنظومة يمكن إسقاطها على العمليات الصغيرة البسيطة والكبيرة المعقدة: كالاختيار، والبناء، وحل النزاعات، وفساد المجتمعات، واتخاذ القرار على كافة الأصْعِدة، سواء في المجال العسكري أو المدني. وهي مشابهة إلى حد كبير النظام الكامل في التفكير الاستراتيجي عند السياسيين والقادة كما ذكر د. جاسم سلطان في محاضرة له عن التفكير الاستراتيجي لقادة المستقبل. لنجعل الأمر أبسط قليلًا، عند ذهابك للمكان ما: الجامعة، المدرسة، العمل، أو إي مكان ما، أوقظ عقلك وانظر للأشياء التي من حول على أنها مذللة ومسخرة لك، وتحمل رسائل تخاطبك. قال تعالى: "وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ". وذكر العلماء التفسير أنّ "التسخير" هنا بمعنيين: تسخير للتعريف بالله وكرمه وفضله وجلاله، وتسخير بمعنى التكريم للإنسان ورفع لقدره عن الأشياء المسخرة له.
الخروج من هذه التحديات أمر صعب جدًا؛ لأنها تحتاج إلى مجاهدة مركبة شاقة، فنحن هنا نتكلم عن تغيير الأفكار، والقناعات والمعتقدات.. التي تقف درعًا واحدًا كفاحًا بين التأمل والاستنتاج |
فغالبًا عندما تتلاقى هذه الأشياء مع بعضها البعض تشكل زوايا هندسية لشيء ما، أو رمز إيحائية، تبحث عنها أو تبحث عنك، وكذلك الذبذبات والكلمات والأصوات المترامية هنا وهناك، فقد تكون مفاتيح لبعض المغاليق لديك، تساعدك في إعمار الأرض، وإقامة خلافة الله فيها. فجميع هذه الأشياء وضع الله -عز وجل- فيها آيات وحكم عظيمة، فلا يعقل وجود النجوم في السماء، وجود الهاتف بين يديك، وكذلك وجودك أنت الآن في هذا المقال أن يكون عبثي. قال تعالى: "وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ". نعم، فهناك آياتٍ وحكمٍ جليلة القدرِ منها ما يمكن أدراكها آنيًا أو مستقبليًا، ومنها ما لا يمكن إدراكه وفهم شيفرته المعقدة على دوام، وهذا يختلف من شخص لآخر ومن تفكير لآخر.
إن هذا النظام يواجه تحديات عديدة تقف حائلة بين التأمل والاستنتاج الصحيح للأشياء، وتختلف من شخص لآخر ومن مكان لآخر، ومن أبرز هذه التحديات تحدي البيئة، وتحدي الشخص نَفْسه. فتحدي البيئة أو المحيط الذي نشأ عليها الشخص له أثر كبير على سير النظام الاستنتاجي للأشياء فإن كانت البيئة ذو انحطاط فكري وأخلاقي مثلًا؛ أغشت العقل، وأوردته العجز. أما تحدي الشخص فهو من أصعب التحديات لأنه نابع من كهف الشخص نفسه وما يحتويه من قناعات وأفكار. والجينات وما تحتويه من غضب وإقتار. هذه التحديات تقيد الإنسان وتجعله عاجزًا هزيلًا ضعيفًا أمام تفسير الظواهر والأشياء التي تحيط به، مما يدفعه للنظر لهذه المدخلات من زوايا محدودة ضيقة وفقًا لكهفه الخاص، وبيئته التي نشأ فيها.
إنَّ الخروج من هذه التحديات أمر صعب جدًا؛ لأنها تحتاج إلى مجاهدة مركبة شاقة، فنحن هنا نتكلم عن تغيير الأفكار، والقناعات والمعتقدات.. التي تقف درعًا واحدًا كفاحًا بين التأمل والاستنتاج، وهي ليست بهذه السهولة التي نعتقد، فالاِفْتِكَاك منها ومن تأثير العادات والتقاليد والبيئة والجماعة والحزب والأقران.. يُلزم الدخول تحت عنوان يُسَموهُ الاستراتيجيون "إعادة التأطير" وهو إعادة صياغة الذات من جديد. وهو معقد جدا لأنه يَصْنَع إنسان جديد يحمل فكر وقناعات جديدة. أيا المسجون في محيط هذا الكون، قف هنا، وضبط بوصلة قلبك عنده، وصحح إحداثيات نيتك له، وأوقد وهج عقلك دونه، وأزل بلطف تراكماتِ شهوةٍ جفت ذبولًا، وانهض بهمٍة تثاقلت قدومًا، وأطلق عنانَ روحٍ سكنت خمولًا، فما خُلقت لتُسجنَ بظلامٍ مُوحش، ولا معبودًا لهوىٍ منبش، فانهض وابحث عن برقياتٍ ربَّانِيّة، أو رسائلَ إلهيه، ترويها مخلوقات كونية، أو أصوات سمفونية، أو لماساتٍ فراشية، أو حتى نفَحاتٍ مكتومة، اصطكت أذن قلبك المبتورة.
هنيئا لمن يفتك من هذه التحديات، ويفهم هذه الرسائل الكونية، ويترجم ترانيمها الوجدانية، وينتشي لغتها المعنوِية؛ ليحولها إلى عبر وعظات وأفعال عملية حتى تصل لدرجة التقوى الذاتية، في آفَاق الملكات الإِنسانية، فكما قيل: "كل أنسان فينا يمتلك ملكات إِنسانية". من خيال، وإِرادة، وضمير، وذات. فالخيال وما يحتوِيه من أبعاد إِبداعية، والإِرادة وما تحتويه من سمو واستقلالية، والضميرِ وما يحتويه من روابط عاطفية، والذات وما تحتوِيه من فطرة إِدراكيّة؛ ليعبر بها جملة واحدة جسر الإِدراك الدنيوي؛ ليصل للأمان الأخروِي.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.