(90 في المائة) من منشوراتي على الفيسبوك يتم الاعتراض عليها من قبل أقاربي من الدرجة الأولى، كنت أعتقد أن الأمر مرتبط بخوفهم عليَّ من الاعتقال؛ فعذرتهم، ولكني عندما انتقلت للكتابة في جوانب تتعلق بعلم الاجتماع وجدت أن الاعتراضات والملاحظات بقيت كما هي، وعندما كتبت منشورات للتسلية والترفيه واجهت أيضًا نفس الاعتراضات، بصور مختلفة، حتى عند تنزيلي صورة شخصية لي أو لأولادي أواجه ملاحظات.
لم أكتب هذه الملاحظة بدافع شخصي أو لانتقاد أقاربي، ولكني أحاول أن أفهم النموذج الاجتماعي السائد لدينا؛ وهو -كما لاحظتُ- نموذج عام منتشر، نحتاج لفهمه وفهم ما يترتب عليه من كبتٍ ومضارَّ وسلبيات، الملاحظة التي يمكن أن أبنيها على ما سبق هي عدم استيعابنا -لغاية اللحظة- لأدنى مفاهيم الحرية، فنحن اعتدنا أن نختار لبعضنا البعض، وأن نتدخل في كل تفاصيل بعضنا البعض، وهذا الأمر لا أستثني منه نفسي.
المساحة الخاصة فهي مفهوم شبه غائب عن واقعنا، فلكل واحد منا مساحته الخاصة التي يحتاج أن يكون بها دون تدخل أحد. |
لدينا قلق زائد عن اللزوم على بعضنا البعض، حتى أننا نهتم بأدق تفاصيل حياة غيرنا بدافع الحب -فيما نزعم-، بينما الدافع -في الغالب- شيءٌ من الفضول، وهو نتيجة طبيعية لعدم اعتيادنا على الحرية والاستقلالية، منذ صغرنا والمحيطون بنا يناقشون كل تفاصيل حياتنا، وكأنها اشارة ضمنية أن حياتك واختياراتك هي مسؤولية الجميع، فيبدأ المشوار من اختيار الروضة والمدرسة هل هي حكومية أم خاصة، ثم نسمع ملاحظات بشكل دائم على كل لِبْسَةٍ نلبسها، نسمعهم وهم يناقشون قرار شراء سيارة من عدمه، أو قرار الموافقة على عرض للعمل أو رفضه، حتى قرار المرأة باختيار لون شعرها يتحول إلى قضية هامة لكل المحيطات بها.
واليوم واضحٌ لدينا تدخلنا في اختيار طالب التوجيهي لتخصصه الجامعي، وأي جامعة سيدرس بها، وما هي وسيلة المواصلات التي سيستقلها أثناء الذهاب للجامعة، ويمكن لنا أن نناقش أيضًا طبيعة الأصدقاء الذين سيتعرف عليهم. والمصيبة العظمى تكمن أيضًا في النموذج الاجتماعي السائد عند اختيار الشاب أو الفتاة لشريك الحياة، لنكتشف أن هذا الشريك هو شريك حياة الجميع، ويجب على الجميع أن يدلي بدلوه في قرار اختيار شريك أو شريكة الحياة، ناهيك عن تدخلنا في كل تفاصيل الزواج، حتى اللباس الداخلي يحتاج إلى لجنة محكمة من النساء.
هل يمكن بعد كل ذلك أن نستغرب لماذا يتدخل الجميع في تقييم منشور على مواقع التواصل الاجتماعي؟! فهذا هو النموذج الاجتماعي السائد، السؤال المطروح: كيف يمكن أن يتم تغيير هذا النموذج؟ ىباعتقادي أن المجتمعات تتغير شيئًا فشيئًا، ويمكن لجيل الشباب أن يقرروا تغيير نموذج اجتماعي سائد؛ من المؤكد أن هذا التغيير لن يحدث بشكل سريع، ولكن رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة.
يستطيع كل واحد فينا أن يقرر بينه وبين نفسه، أن يُدرّب نفسَهُ على عدم التدخل في شؤون الآخرين، وأن يقلل حالة القلق التي تصيبه على الآخرين لأدنى المستويات، ذلك القلق الذي يتحول إلى حرص زائد على مستقبل الآخرين ويدفعنا للتدخل في شؤونهم، في ديننا الإسلامي ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ)، وكأنها إشارة أن طلب النصيحة يأتي من الطرف الآخر، لا أن نبادر نحن بتقديمها دون أن يُطلب منا ذلك. ىثم علينا أن نوسع فهمنا وإدراكنا لدائرة الحرية، والمساحة الخاصة لكل واحد فينا، فإن تعودنا على استيعاب مفاهيم الحرية، صرنا أقل تدخلًا في شؤون بعضنا البعض، وما معنى الحرية إن لم يكن الإنسان حُرًّا في اختياراته، فتدخلاتنا هي نوع من الكبت والضغط والذي يتنافى مع مفاهيم الحرية.
أما بالنسبة للمساحة الخاصة فهي مفهوم شبه غائب عن واقعنا، فلكل واحد منا مساحته الخاصة التي يحتاج أن يكون بها دون تدخل أحد، أحيانًا تكون هذه المساحة على شكل ساعة من الوحدة يَودُّ الزوج أو الزوجة أن يقضيها بمفرده دون وجود أحد، المساحة الخاصة قد تكون مكالمة جاءت للزوج أو الزوجة أو أحد الأبناء لا يودّ اطلاع المحيطين به على تفاصيلها، المساحة الخاصة قد تكون مرضًا لا تود العائلة اطلاع أحد على تفاصيله، قد تكون علامةً مدرسية؛ أو عرضَ عمل؛ أو مشكلةً مع صديق، المساحة الخاصة هي الدائرة التي نشعر بالانزعاج عندما يقترب أحدٌ منها أو يسألنا أحدٌ عنها، فلماذا لا نحاول فهم المساحة الخاصة لمن نعيش معهم أو نعمل معهم؟؟ هذه بعض الملاحظات حول نموذج اجتماعي سائد، ومن الواضح أنه يُزعج الجميع، فلماذا لا نبدأ بالتغيير؟! ولنبدأ بأنفسنا.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.