فرحة نصر بدر لن تزول من النفوس المؤمنة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وكيف لنا أن ننسى معركة نعيش أثار النصر فيها إلى يومنا هذا، لذلك فقد دأب المسلمون على دراستها واستعراض أحداثها حتى يفرحوا بنصرها، ويتعلموا من أبطالها طريقة استجلاب النصر في أحلك الظروف وأكثرها استحالة وتعقيدا. ومن الأمور التي توقفت أمامها طويلا عند دراستي لغزوة بدر؛ المهارة القتالية الفائقة التي ظهرت لدى الصحابة عند احتدام المعركة، وكان سبب حيرتي هنا أن الصحابة الكرام رضوان الله عليهم كانوا حديثي عهد باستضعاف، فهم كانوا في الأمس القريب مضيق عليهم في مكة، مستضعفون فيها، تشهد طرقاتها ودروبها على الأذى الذي لحق بهم من كفار قريش.
ومع معرفتي بأن صبرهم على هذا الأذى والاستضعاف كان امتثالا منهم لأوامر الله، إلا أن طبائع الأمور تقضي بأن هذه الفترة الطويلة من الاستضعاف والإعراض عن الجاهلين لن تترك النفوس بدون أثر فنحن هنا نتكلم عن ثلاثة عشر عاما، كفيلة بأن تجعل من الدخول في مواجهة أمرا في غاية الصعوبة إن لم يكن مستحيلا. هذا الأمر جعلني أبحث عن السبب أو الأسباب التي أدت لهذه النقلة القوية في نفسية الصحابة الأمر الذي انعكس على أدائهم القتالي، وثباتهم الانفعالي في أرض بدر، ووجدت أننا هنا يجب أن نفرق بين المهاجرين والأنصار عند معالجة فكرة القدرة القتالية.
لو كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد درب المهاجرين على القتال والكر والفر وجمع الاستخبارات عن تحركات العدو وخطوط تجارته، فكيف أظهر الأنصار تلك الشجاعة والقوة في أرض المعركة؟ |
يجب أن نضع في اعتبارنا أن غزوة بدر كانت في العام الثاني من الهجرة، وببعض البحث سنجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يجلس في المدينة طوال هذه العام منتظرا ما ستتمخض عنه الأيام، أو أنه لم يكن منتظرا ليرى موقف قريش من المدينة وسكانها بعد أن آوت المهاجرين، ولكنه خرج بنفسه الشريفة وبعث سراياه في كل المناطق المحيطة بالمدينة، بل إنه وصل في سرية نخلة -المهمة جدا- إلى قرب حدود مكة، ومن أهم الملاحظات على هذه السرايا والغزوات والتي بلغت 4 غزوات و4 سرايا، -والناس تغفل عنها لضخامة النتائج المترتبة على غزوة بدر- أنها قامت في الأساس على المهاجرين.
وبطبيعة الحال فقد أسهمت هذه الغزوات في رفع الكفاءة القتالية والقوة النفسية عند المهاجرين، والذين تحولوا فيها من مجرد الصبر على الاستضعاف- على عظم القوة النفسية التي يتطلبها- إلى الهجوم على معاقل الكفار، وقطع طرق تجارتهم في معظم أرجاء الجزيرة العربية، ولم ترفع هذه الغزوات والسرايا فقط من القوة القتالية عند الصحابة؛ بل إنها وصلت بقدرتهم على الحصول على معلومات من أرض العدو لدرجة عالية جدا من الكفاءة والاحترافية. ونستطيع أن نقول أن هذه االغزوات والسريا كانت تدريبا حصد المسلمون ثمار تعبه عند لقائهم بمشركي قريش على أرض بدر.
فلو كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد درب المهاجرين على القتال والكر والفر وجمع الاستخبارات عن تحركات العدو وخطوط تجارته، فكيف أظهر الأنصار تلك الشجاعة والقوة في أرض المعركة؟ وهذا سؤال مهم هو الأخر نستطيع الإجابة عليه بالأتي: لو أننا نظرنا إلى وضع المدينة قبل أن يشرفها الله بهجرة رسوله صلى الله عليه وسلم إليها، وقد كانت في هذا الوقت لا زالت تسمى يثرب، لوجدنا أنها كانت أرض تعج بالفتن والمشاكل الداخلية، فيثرب كانت مسكونة بقبيلتي الأوس والخزرج شديدتا العداء لبعضهما البعض، بالإضافة لليهود الذين حرصوا على إذكاء نار الفتنة بين الأوس والخزرج بصورة مستمرة لكي لا يتحدوا ويصبحوا قوة واحدة تهدد وجودهم في المدينة.
وهذا الوضع القلق جعل أهل يثرب في استعداد مستمر للقتال، فتجدهم مثلا يقولوا للرسول صلى الله عليه وسلم أثناء بيعة العقبة الثانية والتي سميت ببيعة النصرة أو الحرب: "فَنَحْنُ وَاللَّهِ أَهْلُ الْحَلْقَةِ وَالْحَرْبِ، وَرِثْنَاهَا كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ" والحلقة السلاح، فالأنصار كانوا قوما حديثي عهد بحرب أهلية كانت أخر مشاهدها حرب بعاث التي جرت بين الأوس والخزرج قبل الهجرة بقليل. هذا كله إلى جانب خضوع الصحابة لقيادة أشجع الخلق صلى الله عليه وسلم، والذي كان أشجع الصحابة يحتمون به عند اشتداد الخطر وسيطرة الخوف على النفوس، فكلنا نعرف شجاعة سيدنا علي بن أبي طالب وفروسيته والتي اعتبرها العقاد مفتاح شخصيته عندما أراد البحث عن مفتاح لشخصية علي بن أبي طالب، هذا الفارس الشجاع يقول: "كنا إذا حمي الوطيس واشتد القتال احتمينا برسول الله، فلم يكن أحد أقرب إلى العدو من رسول الله"، فكان صلى الله عليه وسلم لصحابته القدوة والمثل بصورة عملية، وإذذا أردنا سرد المواقف التي تشربت فيها نفوس الصحابة الشجاعة من الرسول صلى الله عليه وسلم لما اتسع لنا المقام، ولكن من الواجب علينا أن نستحضر ونروى هذه المواقف عنه صلى الله عليه وسلم بصورة مستمرة حتى ننفض عنا الوهن والخوف.
وأنا هنا عندما أبحث عن أسباب التفوق القتالي الذي ظهر من الصحابة في غزوة بدر، لا أريد أن أحيد أو أهمل المعجزات التي ظهرت في أرض المعركة من قتال الملائكة للكفار وغيرها من مظاهر نصر الله للمؤمنين، ولكنني أريد أن ألقي الضوء على بعض الأسباب التي اتخذها الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام من أجل استنزال هذا النصر، فلقد جرت سنة الله في خلقه على إنزال نصره على عباده عندما يستفرغون طاقتهم في الأخذ بالأسباب، وإن كانت هذه الأسباب غير كافية في ذاتها لتحقيق النصر، فالعبرة هنا في استفراغ الطاقة وبذل كل ما في وسع المؤمن. أسأل الله العظيم أن يجعلنا أهلا لنصره.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.