شعار قسم مدونات

موت الرئيس الذي وحد شعب تونس حول دولته

blogs السبسي

يوم عيد الجمهورية الموافق لـ 25 جويلية 2019 أخذ الموت الرئيس التونسي محمد الباجي قايد السبسي تاركا حزنا كبيرا بين أفراد شعبه داخل وخارج الوطن. وهو أمر نادر في البيئة العربية والإسلامية أن يحزن شعب لوفاة حاكمه ولكن طبيعة العلاقة التي قامت بين الرئيس وشعبه منذ قيام ثورة 17 ديسمبر 14 جانفي 2011 وما قام به من جهد لتحقيق أهداف تلك الثورة في بيداياتها وتمسكه بمبدأ استمرار الدولة ولكن بقيم الثورة وتحولها من الاستبداد إلى الحرية يحسب للرجل وزد على ذلك تمسك الرجل بصيغة حكم تقوم على التوافق بعد انتخابات 2014 وعدم استجابته لعرابي الثورة المضادة في استنساخ النموذج المصري في تونس مما جنب تونس بحر من الدماء تحسب للرجل أيضا. ومهما كان اختلافنا معه في الخيارات السياسية أو القناعات الفكرية أو رؤيته الاقتصادية فإننا لا نمتلك إلا أن نحترم حكمته السياسية التي جنبت البلاد الكثير من الهزات الخطيرة والأهم مكنتها من تجنب مصير الدمار الذي تعرضت له ليبيا وسوريا واليمن أو الوقوع تحت العسكرة مثلما حدث في مصر.

 

لقد كان يوم وفاة الرئيس يوما غير عادي في تونس من الناحية السياسية والشعبية أثبت فيه الجميع أن الدولة فوق الأحزاب والايديولوجيات والعقائد. فلقد كانت رسالة الشعب بكل أطيافه عبر فضاءات التواصل الاجتماعي – بعد الترحم على الرئيس كما يقتضيه الواجب – التأكيد أن الدستور هو الملاذ الوحيد لاستمرارية الدولة وديمومتها وأنه لا مجال في تونس للمغامرات غير محسوبة العواقب من قبل من باعوا ضمائرهم للأجنبي. فالكل أكدوا أن الخيار الديمقراطي القائم على القانون والدستور ليس خيارا مؤقتا بل دائما وأن القيم التي دافع عنها الرئيس حيا سيدافع عنها الشعب بعد موته. وهذه الرسالة تلقاها كل سياسي البلاد فسارعوا لحسم الأمر عبر الحل الدستوري وأسقطوا في المياه كل من يريد الشر لتونس في الداخل والخارج.

 

موت الرئيس قد أيقظ الشعب التونسي وبين له أن الدولة لا يجب أن تسلم للمغامرين والطغاة وأن الحكمة وحدها تقود البلاد

إن موت الرئيس قد وحد الشعب التونسي حول حلمه الذي انطلق منذ ثورة 2011 وهو قيام دولة تونسية ديمقراطية يحكمها القانون والدستور وجوهرها الحرية وكرامة الإنسان ولذلك دافع الجميع رغم حزنهم على الدستور وأكدوا أنه الخيار الوحيد لاستمرار الدولة في تونس وهو الأمر الذي تحقق في النهاية وبعد ساعات قليلة من موت الرئيس. لقد أعطت تونس شعبا وسياسيين درسا للجميع وخاصة للمتربصين بها شرقا وغربا في كيفية الانتقال الهاديء السلس للسلطة في كنف الدولة المعاصرة وهو انتقال لا يتم على ظهور الدبابات وإنما باحترام آليات قانونية دستورية تحترم إرادة الشعب التي يجسدها الدستور.

 

اليوم تشيع تونس رئيسها إلى مثواه الأخير متحدة كما تركها رغم كل الاختلافات التي تبدو طبيعية في البيئة الديمقراطية فالكل يختلف ولكن الكل يتحد أمام المصلحة العليا لتونس والرئيس الذي نودعه اليوم كان رمزا لتلك الوحدة الوطنية. ففي النهاية ورغم جلالة الموت وقسوته إلا أنه في تاريخ الشعوب قد يكون للموت دور أخر غير أن يكون مصدر حزن ولوعة وهو أنه قد يكون دافعا للوحدة والاتحاد. لقد أثبت الشعب التونسي أنه الحامي الوحيد لحلمه في الحرية والكرامة وأجبر الجميع على الالتزام بذلك الحلم لأنه السبيل الوحيد لكسب ثقته وهو أمر يطمئن على مصير الانتخابات القادمة حيث لا نتوقع أن يسمح الشعب للمغامرين والعابثين وأعداء الدولة الجديدة بأن يكون لهم موقع داخل برلمانها ولا أن يكونوا رموزا لها في أعلى هرم السلطة.

   

يتوقع البعض أن يغير تقديم الانتخابات الرئاسية من التوازنات السياسية شيئا وأن يكون له أثر على البرلمان ولكن الواقع يؤكد أن التونسي يفصل بين الأمرين وقد يعطي صوته في الانتخابات الرئاسية عكس البرلمانية والعكس بالعكس. فالناخب التونسي يفصل بين الرئاسية والتشريعية ولذلك لا يمكن التنبؤ بخياراته بشكل دقيق وإن كان المزاج العام في تونس يؤكد أن الانتخابات الجديدة لن تكون فيها مفاجات كبرى كما تصور بعض الدوائر الإعلامية في الداخل والخارج والتي كشف زيف ادعائاتها وبطلان سبر الاراء الذي تقدمه ولعل الفضائح الاخيرة لبعض أهم مراكز سبر الأرء في تونس تؤكد ذلك فلقد اكتشف الرأي العام التونسي التلاعب الكبير الذي تقوم به تلك المراكز من خلال بيع ذممها لبعض الشخصيات التي تريد الترشح للرئاسة. إن موت الرئيس قد أيقظ الشعب التونسي وبين له أن الدولة لا يجب أن تسلم للمغامرين والطغاة وأن الحكمة وحدها تقود البلاد… وسينعكس هذا في اختيار الرئيس القادم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.