شعار قسم مدونات

ثلاثية: خدي الذي ما یزال يُضرب.. (1)

blogs تعليم

لم أعرف ماذا حدث، فجأة ارتفعت عن الأرض وسقطت على قفاي.. أوجاع لم أشعر بها من قبل احتلت مقعدي، مَن وماذا كان مصدرها؟ لا أدري..! استدرت فإذا هو معلمي في مادة الرياضة "هُرمز" في مدرسة نوروز الابتداية بمدينة دهوك.. كان ذلك في بداية عامي الدراسي الأول عام 1972.. تجاوزني "هُرمز" راكضا ليضرب تلاميذ آخرين بنفس الطريقة.. أصابنا نحن الجدد في الصف الأول الهَول من المشهد..! إذن هو "هُرمز" الذي كان يرينا مهاراته في كرة القدم في أول قدوم لنا للمدرسة‌، يطبقها الآن علينا.. نحن التلاميذ الجدد في الصف الأول كما الكرة الجوفاء عنده.. لكن لماذا؟

 

ذهبت باكيا لشقيقي "علي" -يحتاج دعائكم فهو في ذمة الله الآن-  كان يتقدمني في مرحلتين دراسيتين، تقدم نحوي ومد يده على رأسي، مسحها ليهدأ من روعي، وليشرح لي السبب: "كاكو: عندما يرن الجرس الأول تثبت في حالتك، إذا أنت واقف تبقى واقفا، وإذا أنت جالس تبقى جالسا، ولو كنت منحنيا تبقى منحنيا، لا حركة ولا صوت.. كما لا روح فيك..! هذه وضعية الثبوت، يجب علينا أن نكون هكذا عندما يرن الجرس الأول.. وعند الجرس الثاني تركض سريعا نحو غرفة الصف.. حتى لا يضربك هُرمز".

 

كنت في تلك اللحظات كتلة من الشوق لوالدي، كنت افتقد لحضوره.. لوجوده.. لهیبته.. لجماله.. لاسمه.. لكل شيء فیه.. كنت لا أستطيع حتى التفكير فيه ولا في ظله ولا في صورته.. كنت لا أجرأ لأننی حتما كنت سأنهار باكیا عندما أفعل ذلك

كنا في الصف الأول لا نعرف هذا، ولم يكن قد علمونا بذلك، لكن ضربة هُرمز جلعتنا نتعلم غصبا عنا، لتبقى في ذاكرتي بتفاصيلها حتى الآن وبعد مرور سبع وأربعين سنة.. بعد ذلك كنا ننفذ الحالة بحذافيرها، ففي خضم حركة مئات التلاميذ وركضهم يمينا ويسارا في ساحة المدرسة والتشويش الكبير والصيحات، فإن الصمت يحل مع الجرس الأول، الجميع يتوقف في وضع حركته التي رنّ عندها الجرس، الواقف واقفا، والجالس جالسا، والمنحني منحنيا، مع صمت مطبق، دون حركة ولا صوت، ولا نفس! حتى كاد الذي في وضعية القفز أن يبقى في الهواء يعاكس جاذبية الأرض لو قدر له ذلك خوفا من ضربة هُرمز!

 

أما "شمشون" معلم الجغرافيا فكان يمسك بيدي ويفُرها، كان علي أن أفر باتجاه الفَر، فلا يمكنني أن أخرج يدي من كفه الذي قبضه بشدة عليها، ليصبح ظهري في مواجهته، وواجهتي على عكسها، وجسمي منحنيا، مستسلما، جاهزا لأي ضربة قادمة، لتأتي حافة يده اليمنى من علو بكل ما أوتي من قوة على ظهري، ليسقطني أرضا على وجهي.. الأوجاع كانت متعددة في مسكه بشدة ليدي.. في كل جسمي الذي سقط أرضا، أضافة ألى حرقة في حنجرتي بعد ضربه على ظهري.. حرقة أكح بسببها، هذا كان فن شمشون في الضرب، يختلف عن فن ومهارة هرمز..

 

محمد صالح معلمنا في مادة العلوم، عندما كان يراه التلاميذ قادما من الإدارة، بهيله وهيلمانه، ذلك الطويل الرفيع، المحمر الوجه، العبوس القمطرير، الذي كان يسحب سوائل أنفه بقوة.. كنا نسمع صوت سحبه للسوائل كما نسمع صوت ريح العواصف، لأن الكل ساكت صامت حوله، لا نسمع غير الأصوات التي تصدر منه.. عندما يراه التلاميذ يقفون خشية في جانبي مسار ممشاه، والذي يعرف أنه خارج مرمى نظراته، كان يحاول هاربا كي لا يصادفه في الطريق.. محمد صالح كان يضرب بكفه على خدي بكل ما أوتي من قوة، لأسمع رنينا في اذني طوال ذلك اليوم، مرة قلت لوالدتي أن رنين ضربة كف محمد صالح صباح الیوم على خدي، لا يتوقف.. لا ينتهي.. حتى عندما أضع خدي على المخدة لأنام، يستمر الرنين، وأنا أكتب الآن ياتيني الشعور بسماع ذلك الرنين الذي كان في سبعينيات القرن الماضي..

 

عندما كان محمد صالح يدخل الصف، كان يجلب معه الصمت الرهيب، وكأن لا أحد في الصف، كان يعجبه ذلك جدا، فيسير متبخترا وسط هذا الصمت، بين فواصل صفوف مقاعد التلاميذ، كان يفتخر في مقولته لزملائه المعلمين: "لو أن إبرة سقطت على أرضية الصف لسمعنا صوتها.. في درسي..". مدرس الإنكليزية "عبد المسيح" كان يجمع مسطرتين من مساطر ذات الحافة المعدنية، يلصقهما ببعض، ويضرب بها على اظهر أكفنا، كان يرسم بذلك  عليها خطين متقاربين متوازيين دمويين.. كانت تبقى لفترة طويلة، كلما كنا نحكها كانتا تدميان من جديد..

 

هربت من عبد المسيح ولم أكمل دراستي الإبتدائية في نوروز! فآخر أيامي فيها كانت بداية العام الدراسي السادس سنة 1978 عندما عرفت أن الدرس القادم هو درس عبد المسيح، وهو الذي طلب دفترا خاصا لمادة الإنكليزية، ولم أكن قد جلبته، فرميت كتبي من الطابق الثاني نحو الشارع المجاور للمدرسة، وركضت خارجا، حاملا كتبي من هناك هاربا من المدرسة.. ذهبت لمدرسة صلاح الدين الابتدائية وسط المدينة، توجهت نحو غرفة المدير، دخلت اليها بعد أن طرقت الباب، ظن أنني تلميذ من مدرسته..

 

– ها بني لماذا لا تذهب لصفك..؟

– أنا لست من هذه المدرسة..

– من أين أنت..؟

– أنا من مدرسة نوروز..

– وماذا تفعل هنا..؟

– جئت لأنتقل إلى مدرستكم..

 

ضحك المدير والمعلمون الجالسون، فأنا الطفل الصغير، الضعيف، غير منظم الهندام، ملابس قديمة، بنطلون دون حزام، أرفعه بين كل لحظة وأخرى كي لا ينزل، حذاء بلاستيكي مشقق، ذات حواف حادة أحدثت جروحا فی مؤخرة القدم.. جروحا لا تلتئم، كلما التأمت ضربتها حافة الحذاء البلاستيكي الحادة لتدمي وتتجدد..

– اذهب اجلب والدك معك؟

كنت في تلك اللحظات كتلة من الشوق لوالدي، كنت افتقد لحضوره.. لوجوده.. لهیبته.. لجماله.. لاسمه.. لكل شيء فیه.. كنت لا أستطيع حتى التفكير فيه ولا في ظله ولا في صورته.. كنت لا أجرأ لأننی حتما كنت سأنهار باكیا عندما أفعل ذلك.. كنت افتقده بشدة لا توصف، كنت أشعر بأنه لو كان هنا لما ضربني "هُرمز" ولا "شمشون" ولا "محمد صالح" ولم أكن أهرب من "عبد المسيح". لم استطع الرد، لأن الكلمات احتبست في صدري، البكاء منعها من الخروج، لم أود أن أظهر باكيا هنا، لا أدري ما الذي كان يمنعني من البكاء وانا في تلك المرحلة من الطفولة، هل كبرياءا أو ضعفا وخجلا؟!تأخرت في الرد، فجاء كلام المدير ثانية..

 

– ابني اذهب ليأتي بك والدك، أو والدتك..

– والدي ليس هنا.. ووالدتي على وشك الولادة..

– أين والدك؟

– منفي.. في عرعر على حدود السعودية..

 

عندما جاء عوديشو في اليوم الثاني، ووزع أوراق الامتحان كانت درجتي تسعين من المائة، ذهبت إليه لاقول له بأن هناك خطأ في درجتي.. فلا خطأ في الأجوبة هي مائة وليست تسعون! كان رد عوديشو هو ضرب على الخد بكل ما أوتي من قوة، أسقطني أرضا

فهم المدير كل شيء، لم يكن يحتاج لشرح المزيد، فهو من البيشمركة الذين حاربوا مع ملا مصطفى البارزاني النظام عام 1974، وبعد فشل الثورة الكوردية بمؤارة دولية عام 1975 لم يكن والدي من الهاربين إلى إيران، بل من العائدين إلى المدينة، فتم نفيهم إلى صحاري الجنوب.. تغير وجه المدير ومعالمه، والمعلمون تأثروا بعد صمت حلّ على غرفة المدير.. قام المدير من وراء منضدته، مسك بيدي، سار بي ولم يتحدث، فما كان أصابني قبل قليل أصابه.. أوصلني لغرفة المعاون، عمل كتاب قبول لي بالصف السادس في مدرسته موجه لمدرسة نوروز، ذهبت بكتابي لنوروز..

 

في أول يوم من دوامي في مدرسة صلاح الدين، كان الدرس هو الرياضيات، وكان المعلم هو عوديشو، صاحب الوجه المنقط الأحمر، والشعر الأصفر المائل للحمرة، طلب من التلاميذ إخراج ورقة للإمتحان قلت له بانني جديد، هذا أول يوم لي في هذه المدرسة، عسى أن يؤجل لي الامتحان، دون أن ينظر عوديشو في وجهي، وكأنني مرتكب جريمة، وقال وظهره لي: أخرج ورقة مثل بقية الطلاب، ورد على الأسئلة..

  

كنت ذكيا في مادة الرياضيات، انهيت الابتدائية والمتوسطة والإعدادية، وكلية العلوم، لا أتذكر مرة أنني أخذت أقل من الدرجة الكاملة في الرياضيات إلا يوم امتحان عوديشو.. فالسماء ليلا في الصيف، وأنا متمدد على فراشي، على سطح غرفتنا الترابية، وهي تتللأ بالنجوم، تتزين بالأنوار، كانت تتحول لسبورة عظيمة حرة، ارسم عليها بكل حريتي، ارفع يدي اربط بين النجوم أشكل منها الأشكال الهندسية، مثلثات، مربعات، الخطوط المستقيمة المتقطعة لبعضها أو المتوازية مع بعضها، بل أرسم المجسمات، حتى أن والدتي كانت تقول نهارا، يا بني هل أصابك الجنون، ماذا تفعل بالليل تحرك يديك في الهواء وتتحدث بكلام غريب لا أفهمه.. 

 

عندما جاء عوديشو في اليوم الثاني، ووزع أوراق الامتحان كانت درجتي تسعين من المائة، ذهبت إليه لاقول له بأن هناك خطأ في درجتي.. فلا خطأ في الأجوبة هي مائة وليست تسعون! كان رد عوديشو هو ضرب على الخد بكل ما أوتي من قوة، أسقطني أرضا، وقال غاضبا، كان صدى صوته الغاضب ملأ أرجاء الصف، وسط حيرة التلاميذ: تطلب التأجيل؟! وتقول بأنك جديد! وتريد مائة؟! من أخذ من تلاميذي مائة حتى أعطيك مائة..؟! فما كان مني إلا أن شققت ورقة الامتحان بوجهه ورميت قطعها المتبثرة على أرضية الصف، ليغضب عوديشو كالمجنون ويذهب للإدارة ويقول إما أنا في هذه المدرسة أو هذا التلميذ غير المتربي..
 

جائني المدير ليقول: هل هو أنت يا بني؟ كيف تشق ورقتك بوجه المعلم..؟ قام بجمع قطع من ورقتي المتبعثرة والصقها ببعض وقال..

– يا كسلان تأخذ تسعة من مائة؟ وتشق ورقتك؟

– ليست تسعة.. ائتي بالقطعة الأخرى من الورقة.. إنها تسعون..

– أستاذ عوديشو.. هل فعلا أخذ التسعين..

– نعم..

– كيف تشق ورقتك يا بني وأنت أخذت التسعين؟!

– هي مائة وليست تسعون؟ استحق مائة..

 

ابتسم المدير.. وأبعد عوديشو قليلا وتحدث معه همسا في مشكلتي.. ثم جاء إلي المدير وطلب مني أن أعتذر من عوديشو.. انتهت مرحلة نوروز، وجائت مرحلة صلاح الدين، لكن لم ينته الضرب، تواصل معي في مراحل مختلفة في صلاح الدين وكارة وكاوة وما يزال، كأن الضرب جزء من موروثنا الحضاري، منذ طفولتي كنت أحلم بمرحلة حياتية لا ضرب فيها..

———————————————————————————————————— 

ملاحظة: هناك جزءان باقيان من الثلاثية..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.