تبلورت قضية النضال ضد نظام التفرقة العنصرية في جنوب أفريقيا من خلال رحلة نيلسون مانديلا من أجل التحرر من هذا النظام الذي عانت منه دولة جنوب افريقيا لمدة ثلاثة قرون، ويناقش مانديلا من خلال سيرته الذاتية رحلة التحرر كاملة، من الطفولة في ريف جنوب أفريقيا إلى العاصمة التي تلقى فيها مانديلا تعليمه ومارس فيها نشاطه السياسي "جوهانسبيرغ" وقد تناول بالتفاصيل الدقيقة ومن الألف الى الياء كيف عانت جنوب أفريقيا من هذا النظام.
والذي كان يميز حتى بين السجناء على أساس لونهم الأبيض أو الأسود، وإن اللافت من خلال المذكرات أن قصة التفرقة العنصرية تجلت من خلال موقع مانديلا كزعيم لحزب المؤتمر الوطني الأفريقي، وكرئيس لجنوب أفريقيا بعدما سجن سبعة وعشرين عاما على يد الحكومة البيضاء في كيب تاون، لنشاطه السياسي في هذا الحزب، المنادي بالتحرر والحرية الكاملة والخلاص من هذا النظام، وقد طبقته حكومة الأقلية البيضاء ضد الغالبية السوداء ونتج عنه آلاف الضحايا من المواطنين السود الذين قتلوا دفاعا عن حقهم في المساواة مع البيض.
أصبح مانديلا بحكم المكان والزمن ومجموعة من الظروف رمزا للتحرر من نظام التفرقة العنصرية ضد الأفارقة السود، ورمزا من رموز الحرية في هذا العالم، وهذا ما برهنه فيما بعد |
وهذا ما تمخض عن سيطرة الأقلية البيضاء على نظام الحكم، وتطبيق الحكومة القوانين العنصرية التي تميز على أساس اللون والعرق بين المواطنين، وتمنح الامتيازات والمزارع للأقلية البيضاء عدا عن التحكم في السياسة والاقتصاد والتعليم والتمييز القائم على منع الاختلاط بين السكان وتخصيص أماكن معينة للبيض وعاصمتها كيب تاون، ومناطق معينة للسود وعاصمتها جوهانسبيرغ، وتطبيق قوانين نظام التفرقة العنصرية على السود في كل مناحي الحياة، وحتى في الأمور العادية اليومية البسيطة والمعاملات الحكومية وغيرها من الأمور، هذه الممارسات التي منعت السود من التمتع بحياة كريمة وممارسة النشاط اليومي كمواطنين في دولة جنوب أفريقيا.
ويروي مانديلا قصة السنوات السبع والعشرين التي قضايا في السجون، وينتقل بأسلوب سردي رائع إلى قصة سجن جزيرة روبن والسنوات الثماني عشر التي قضاها فيها، حيث يروي بالتفاصيل الدقيقة كيف طبق البيض نظام الفصل العنصري على السجناء، حيث أن نظام التفرقة العنصرية كان يسري على ملابس السجن، ويصرف نوعية معينة من الملابس خاصة بالسجناء السود، ونوعية خاصة من الملابس للهنود، ونوعية معينة من الملابس للسجناء البيض.
ويمضي مانديلا في رحلته يصف حيثيات نظام التفرقة في جزيرة روبن التي لا تقتصر فقط على الملابس وإنما تتعداها لطبيعة السجن ونوعية الزنزانة والقوانين المفروضة على السجناء السود من قبل الحراس البيض وآمري السجن، وقد قسمت الزنازين إلى أ، ب، ج، ولكل تصنيف من هذه التصنيفات قوانين خاصة تتعلق بالممارسات والأعمال اليومية للسجناء والقوانين التي تطبق على كل صنف من الأصناف الثلاثة، والملاحظ في هذا الوصف الذي يصفه مانديلا أنه كان يكتب مذكراته في السجن، فلا يستطيع أحد ما أن يحيط بكل هذه التفاصيل في هذا النوع من السير الذاتية والمذكرات باليوم والتاريخ والزمن الذي يكاد ينسى في السجن حيث تمر الليالي والأيام بلا عدد، لكن من سياق النص يبدو أن مانديلا كان يكتب مذكراته داخل السجن، ولديه أمل بعد أن حكم عليه بالسجن مدى الحياة أن ينتصر على نظام التفرقة العنصرية رغم قلة الأدوات والحيلة والوضع السياسي في جنوب أفريقيا.
والذي يميز البيض ويوفر لهم الشرعية الداخلية والدولية بالقوة، ويبدو من خلال المذكرات أن مانديلا على الرغم من ذلك كله كان يؤمن بحتمية النصر على هذا النظام، وهذا ما نلاحظه من خلال قوله: "إن النضال في السجون رغم بساطته لا يقل شأنا عن النضال خارج السجون رغم زخمه وقوته، فالإنسان المناضل من أجل حريته وكرامته، يناضل من خلال أبسط الأشياء ضمن زنازين محصورة". وقد ساعد على تشكيل حركة نضال داخل السجون في جزيرة روبن عاملان: الأول وجود نخبة من السياسيين رفاق مانديلا والعامل الثاني الذي أدركه مانديلا نفسه، أن اخبار السجون والنضال داخله كان تحظى باهتمام أعضاء حزب المؤتمر الوطني الأفريقي الذين يعدون بالملايين.
وذلك بالإضافة إلى الأفارقة الذين يعيشون في نفس القارة، ناهيك عن الرأي العام الدولي ومتخذي وصناع القرار في هذا العالم الذين كانوا ينظرون بعين الأرق والقلق إلى مآل الأوضاع في جنوب أفريقيا، وإذا ما كانت هذه السجون الشرارة لحرب أهلية في جنوب أفريقيا بين الأقلية البيضاء الحاكمة والأغلبية السوداء المضطهدة، وقد أدرك مانديلا ذلك من خلال الوفود الصحفية الزائرة من كبريات الصحف العالمية المحافظة، كذلك قصاصات هذه الصحف التي كانت تنشر أخبار السجون في جزيرة روبن وتذكر مانديلا على وجه التحديد كزعيم مناضل من أجل الحرية.
على أية حال، أصبح مانديلا بحكم المكان والزمن ومجموعة من الظروف رمزا للتحرر من نظام التفرقة العنصرية ضد الأفارقة السود، ورمزا من رموز الحرية في هذا العالم، وهذا ما برهنه فيما بعد، كيفية تحول مانديلا إلى أسطورة داخل السجن، وأسطورة خارجه عندما تحرر، وكذلك أسطورة عندما رحل، فقد كان ينظر إليه الأغلبية السوداء في جنوب أفريقيا على أنه المخلص، فيما كان هو نفسه يملك من المواهب والقدرات السياسية والقانونية ما يؤهله لقيادة مرحلة التحرر ويؤهله لإحلال السلام في جنوب أفريقيا فيما بعد، حتى استطاع القضاء على نظام التفرقة العنصرية في بداية التسعينيات.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.