شعار قسم مدونات

هل نحن على أبواب ربيع عربي جديد؟

blogs ثورة يناير

شهدت المنطقة العربية في أواخر عام 2010 ومطلع 2011 هبات شعبية بركانية مطالبة بلقمة العيش، والحرية، والعدالة الاجتماعية، والكرامة الإنسانية، ومتمردة على الأوتوقراطية السياسية الحاكمة والأوليغارشية الاقتصادية والاجتماعية المستبدة التي تحتكر موارد البلاد، وتعبث بقوت المواطن، وتصطلي عليه بتغول رجال الأعمال على خيرات الأوطان ومقدراتها، وتفتح الحدود أمام المنافسة التجارية غير العادلة أو المتكافئة.

ضجت الميادين بالهتافات، وعلت الحناجر بالصرخات، وتدافعت السيول البشرية إلى الساحات يجمعها شعار المرحلة والضرورة "الشعب يريد إسقاط النظام"، ومعلنة عن تدشين عهد جديد وعلاقة تعاقدية لا تفتئت فيها الدولة وأجهزة البوليس على حقوق الأفراد. كانت الجماهير العربية الثائرة تتدفق بسرعة أكبر من جريان أنهار بلادهم، وتتلاطم بقوة أعظم من تلاطم أمواج بحارهم في حالات المد العاتية، وصور أيقونة الثورة وملهمها محمد البعزيزي قد أضحت رمز الإنسانية المضطهدة، والحلم الذي يلتف حوله الجميع، والمظلومية التي انتفض من أجلها العقل الجمعي، بعدما شاهد النيران تلتهم جسد شاب قروي فقير من أجل رغيف الخبز.

انطلقت الثورة المضادة كالنار في الهشيم تنشر الفوضى، وتزرع في نفوس الشعوب اليأس، وتلفق الأباطيل حول القيادات الثورية الجديدة وخلفها ماكينات إعلامية ضخمة وموارد مالية هائلة وبيروقراطية إدارية حاكمة ترفض الاستسلام للمتغيرات الجديدة

لا شعورياً تخرج الجماهير في تونس ولحقت بها مصر، ثم اليمن وليبيا وسوريا وغيرها في فاصل زمني لا يخلو من المعجزة التي وقف إزاءَها الشق الغربي من العالم بذهول وحيرة وتخوف لما ستؤول إليه الأمور، في حين تباينت المواقف النخبوية في الساحة العربية ما بين منحاز لهبات الشعوب ومنخرط في الثورة ومجابه لبنادق ودبابات العسكر، وآخر يرى أن الربيع العربي هو سايكس بيكو جديد وخدعة غربية لتقسيم المقسم وتجزئة المجزأ، وثالث احتج بالفتنة والتباس الأمر لحث أتباعه على التزام البيوت وعدم الخوض مع الخائضين.

نجحت ثورة الياسمين في خلع ابن علي الذي فر إلى السعودية، وأرغمت ثورة يناير مبارك على التنحي، وتمكنت الثورة الليبية من الإجهاز على القذافي بعدما توعد الثوار بالملاحقة في كل بيت ودار وزنقة، وأُجبر علي عبد الله صالح على ترك منصبه مقابل الحصانة له وللمقربين منه، ثم مقتله على أيدي جماعة الحوثي في رقصته الأخيرة على رؤوس الأفاعي، في حين دخلت الثورة السورية في نفق مظلم من التجاذبات الإقليمية والدولية، ودخول الدب الروسي وإيران وأذرعها العسكرية على خط الأزمة لدعم بشار الأسد والقضاء على المعارضة المسلحة وحسم المعركة لمصلحة النظام.

شعر ملوك وأمراء الخليج بالخطر القادم من الجوار، وسخروا أموالهم ومقدراتهم لاستئصال شأفة هذه الثورات قبل أن تداهمهم في عقر دارهم، وسارعوا إلى المواطن الخليجي المترف يغدقون عليه المزيد من المال ويقدمون له الامتيازات كي يبقى عبداً ذليلاً، وتدخلت قوات الدفاع المشتركة لمجلس التعاون الخليجي المعروفة "بدرع الجزيرة"، والتي تم تشكيلها في نوفمبر/تشرين الثاني 1982 من قبل مجلس التعاون الخليجي للقضاء على ثورة البحرين ذات الصبغة الشيعية. أما الأردن وعُمان والمغرب فقد اتبعت سياسة الاحتواء والاشراك الشكلي لمنع وصول عدوى الثورات إليهم، وفشلت دعوات الثورة في السودان والجزائر وموريتانيا في حث الجماهير على الخروج والتظاهر في ظل ضجيج الساحات المجاورة وضعف حراك الجماهير الذي تمكن الأمن من محاصرته وتبريده.

قابلت المؤسسات العميقة وفلول الأنظمة وأجنحة الثورة المضادة حراك الجماهير بالرفض والمواجهة السياسية والميدانية والعسكرية، وأبدت العواصم والقوى الغربية ترحيبها الحذر بسقوط نظام ابن علي ومبارك وصالح والقذافي، في الوقت الذي كانت تعد فيه العدة مع بعض الدول الإقليمية الثرية وإسرائيل؛ لإسقاط المشروع التحرري العربي الجديد واجهاضه في مهده، بعد أن بدا لها أن أنظمة ما بعد الثورة تسعى للخروج من الحظيرة الأمريكية وترفض نظام الوصاية أو أي شكل من أشكال التبعية.

انطلقت الثورة المضادة كالنار في الهشيم تنشر الفوضى، وتزرع في نفوس الشعوب اليأس، وتلفق الأباطيل حول القيادات الثورية الجديدة وخلفها ماكينات إعلامية ضخمة وموارد مالية هائلة وبيروقراطية إدارية حاكمة ترفض الاستسلام للمتغيرات الجديدة. مارست أنظمة الثورة المضادة كل الأساليب المشروعة وغير المشروعة من أجل اختلاق الأزمات، وتخدير عقل المواطن، وتخوين القادة الجدد الذين جاءوا إلى السلطة بانتخابات ديموقراطية شهد العالم من أقصاه إلى أدناه بنزاهتها. كما حاولت أجنحة الثورة المضادة النيل من القيادات الإسلامية التي وصلت إلى سدة الحكم في مصر، واتهامهم بأخونة الدولة، والتحالف مع الغرب، وعدم القدرة على إدارة البلاد، وهو ما أثبتت مجريات الأحداث كذبه وبهتانه. وفي تونس تعرض الرئيس التونسي الأسبق المنصف المرزوقي لحملات إعلامية وسياسية مشابهة لما حدث في مصر، رغم الفارق الأيدولوجي الواضح بينه وبين الرئيس المرحوم محمد مرسي الذي جاء إلى السلطة مرشحاً عن جماعة الاخوان المسلمين.

سبع سنوات عجاف عادت فيها جحافل الثورة المضادة ورموز الدولة العميقة إلى صدارة المشهد السياسي والأمني، وطالت أيدي الانقلاب الباطشة المعارضين والمؤيدين على السواء، وزادت هيمنة بارونات المؤسسة العسكرية على ثروات البلاد

وبالفعل نجح التحالف العضوي بين الدولة العميقة في الداخل وأقطاب الثورة المضادة في الخارج في الانقلاب على خيارات الشعوب بتدخل العسكر في مصر، وإزاحة الرئيس المنتخب، وتعطيل الدستور، وإعلان الأحكام العرفية، والعصف بمكتسبات ثورة يناير. أما في تونس فقد استطاع المال الخليجي المسموم تنفيذ انقلاب ناعم أدى إلى إسقاط مرشح ثورة الياسمين الرئيس المنصف المرزوقي، وإعادة أحد أهم أقطاب النظام المخلوع إلى رئاسة تونس، في حين استدرجت اليمن وليبيا وسوريا إلى مستنقع العسكرة، ونزفت دماء مئات الآلاف، ودار صراع ضروس على المحاور والأقطاب مدفوعاً بمونولوج "الجماعات الإرهابية والمؤامرات الكونية". وبذلك نجحت الثورة المضادة في إسقاط القيادات الشعبية التي حملتها التجربة الديموقراطية إلى السلطة، وعملت على استعادة جميع الموروثات الإدارية والسياسية والأمنية القديمة، ومزقت النسيج الاجتماعي إلى مذاهب متناقضة وشيع متنافرة عبر أبواقها الإعلامية والسياسية الذين تصدروا المشهد مبررين الانقلابات العسكرية ومحذرين الجماهير من مناجزتها.

استهل الانقلاب العسكري في مصر على سبيل المثال لا الحصر حكمه بمذابح جماعية، وبحار من الدماء، وصرر الموت غير الرحيم التي طافت الكون، وجثث الأحياء في المستشفيات الميدانية قد استحالت إلى رماد وسط تواطؤ إقليمي وتنديد دولي خجول لا يعرف معنى الإنسانية ولا يعترف بخيارات الشعوب إذا كانت في غير صالحه. أجهز أحفاد عبد الناصر على أحلام الشعب المصري في الحرية وغد أفضل، وساقوا العشرات إلى أعواد المشانق، وزجوا بعشرات الآلاف في السجون التي تضاعف عددها في فترة قياسية، وحجبوا المنابر الإعلامية المعارضة أو المطالبة بالحد الأدنى من الحقوق الآدمية، وشنوا حملات مسعورة لتشويه الدين والتراث والنيل من الصحابة والفاتحين، وغادر عشرات الآلاف بعدما ضاقت عليهم أرض مصر بما رحبت، وعمدوا إلى تغيير المناهج الدراسية؛ لكي الوعي وغسل الأدمغة وشيطنة المعارضين، ورفعوا شأن الساقطين وجعلوهم قامات تُحتذى ونماذج تُقتدى، وقدمت مختبرات المؤسسة العسكرية وصفات سريالية وبأدوات مبتذلة لخداع المواطن المصري البسيط الذي لا يجد سبل الاستشفاء من أمراضه المزمنة.

كذلك قرر البنك المركزي في عهد السيسي تعويم الجنيه الذي خسر أضعاف قيمته أمام العملات الأجنبية، وشن الجيش حملات عسكرية شرسة لتدمير آلاف المنازل في سيناء؛ لإفراغها من السكان ومحاصرة المقاومة الفلسطينية واسترضاء إسرائيل، وأجريت تعديلات دستورية متتالية تبقي السيسي رئيساً لمصر حتى عام 2030 على الأقل، واختتم السيسي جرائمه الفظيعة في الداخل بقتل الرئيس المنتخب محمد مرسي مع سبق الإصرار والترصد؛ للخلاص من آخر مكتسبات ثورة يناير والانفراد بحكم مصر مدى الحياة.

أما في الملف الخارجي فقد تنازل السيسي عن جزيرتي تيران وصنافير للسعودية مقابل بعض المليارات التي ابتلعتها منظومة الفساد الإداري، وتأثرت حصة مصر من مياه النيل؛ بسبب سوء إدارة سلطات الانقلاب للأزمة مع أثيوبيا، وتراجع دور مصر في الصراعات الإقليمية؛ الأمر الذي دفع الولايات المتحدة الأمريكية لاختيار السعودية لتكون عراب صفقة القرن. كذلك استورد السيسي الغاز الطبيعي من إسرائيل، واعتمد على المنح الخليجية لسد عجز الخزينة العامة في ظل هيمنة المؤسسة العسكرية على جميع روافد الاستثمار، وتراكمت فاتورة الديون الخارجية إلى أن وصلت إلى 92.6 مليار دولار نهاية يونيو/حزيران 2018، حسب الأرقام الصادرة من البنك المركزي المصري.

سبع سنوات عجاف عادت فيها جحافل الثورة المضادة ورموز الدولة العميقة إلى صدارة المشهد السياسي والأمني، وطالت أيدي الانقلاب الباطشة المعارضين والمؤيدين على السواء، وزادت هيمنة بارونات المؤسسة العسكرية على ثروات البلاد ومواردها الاقتصادية في ظل اتساع حالة الغليان والاحتقان والنقمة الشعبية ضد نظام السيسي الذي فشل فشلاً ذريعاً في تجاوز الأزمات الحياتية والمعيشية المتراكمة، وعجز عن تقديم خيارات بديلة لإخراج مصر من مستنقع الفقر والبطالة والتضخم والمديونية، ووضع البلاد على فوهة بركان ينذر بثورة شعبية عارمة تلوح بوادرها في الأفق. فهل تعطي ثورة الجزائر والسودان بارقة أمل بعودة الربيع العربي واقتلاع أنظمة الفساد والاستبداد؟ وهل توحد الثورات المضادة وتجربة الانقلابات القاسية رفاق الميدان من جديد؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.