يتعرض مسلمو أوروبا إلى حملات كراهية تتصاعد منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر إلى يومنا، وتتخذ صورا متعددة من الظلم، حتى تحولت من حملات التشويه والتحريض إلى العدوان المادي على المساجد والمسلمين، وقد نال المسلمة الأوروبية من تلك الكراهية النصيب الأوفر، ولا ينسى أحد فاجعة مقتل الدكتورة مروة الشربيني في قاعد المحكمة بإحدى محاكم دريسدن عام 2009. وفي مواسم الانتخابات يتعرض المسلمون لمزايدات كبيرة تُهضم فيها حقوقهم. وقد أدى صعود اليمين المتطرف في عدد من الدول إلى زيادة وتيرة تلك الكراهية. وأسفرت تلك الحملات عن سيطرة الخوف على الحاضر والمستقبل، ولا شيء أخطر على المجتمعات من هيمنة الخوف على الناس وفقدان الأمن الاجتماعي.
والسؤال: متى يخاف الإنسان من الآخرين؟
1- عند الجهل بهم، فمن جهل شيئا عاداه.
2- الدعاية السلبية تترك آثارها وتصنع حواجز يصعب تجاوزها.
3- السلوك والخبرات السلبية.
يجب تسليط الضوء على التراث الإنساني الإسلامي والأوروبي الذي أفادت منه الحضارة الإسلامية والأوروبية، كما يجب إظهار الفترات التاريخية التي ازدهرت فيها العلاقات بين الشرق والغرب وإبراز الكتابات المنصفة على الجانبين الإسلامي والأوروبي |
وكم حدثني عدد من المسلمين في أوروبا عن علاقتهم بجيرانهم وأصدقائهم غير المسلمين ولم تتغير المعاملة بشكل إيجابي إلا بعد التقرب منهم واختبار أخلاقهم، وكأنَّ لسان حالهم يقول: "أنتم خلاف ما نظن". لكنَّ صناع الخوف داخل المجتمعات لا يسكنون ولا يركنون لراحة، فغايتهم تقسيم المجتمعات الإنسانية على أسس الدين واللون واللغة والعرق والجنس، وإثارة النزاعات بينهم والمفاهيم التي تسمم العقول وتُغيِّر القلوب. إن دعاة الكراهية وأكابر المستبدين لا يسرُّهم أبدا أن يروا مجتمعا متماسكا قويا، ولا يزالون يسلبون من الجماهير شعور المواطنة الحقيقي عبر سلسلة من الإجراءات والخطط والرسائل والحجب والمنع من الحقوق، فهذا مُواطن أصلى وذاك وافد غريب. لكننا لا نريد أن نبكى على اللبن المسكوب، ولن ندع أحدا يحرمنا من التفكير الجاد، ولن نُستدرج إلى دائرة دعاة الكراهية، بل نتطلع إلى المستقبل ونجهد أنفسنا في رسم طريقه عبر خطوات وأعمال مدروسة، وعلينا العمل، ومن الله العون والسداد.
قبل الحديث عن الخطوات التي علينا أن تتخذها أو الواجبات الفردية والجماعية أرى أن نتحدث عن التهميش والتمييز الحاصل بين مسلمي أوروبا سيما وقد تحدثنا في المقال الماضي عن مظاهر العنصرية في العالم العربي. ماذا عن التمييز بين مسلمي أوروبا؟ الواجب أن نكون صرحاء مع أنفسنا لنقف على بعض جوانب الخلل فنصلحه، وقد أمرنا الله تعالى أن نكون قوَّامين لله بالقسط ولو على أنفسنا. ومن حاسب نفسه في الدنيا سَلِم في الآخرة. نعم هناك عنصرية بين مكونات الوجود الإسلامي بأوروبا، فالتمييز والتهميش واقع بين مسلمي أوروبا أنفسهم، وهناك نظرة دونية عند شريحة من العرب تُجاه العجم، وتُجاه الأتراك، كذلك تجد عند بعض الأتراك نفس النظرة، وهناك تمييز تجاه بعض المسلمين الجدد.
أما المسلمين الأفارقة فلهم نصيب من التمييز والإقصاء. كذلك هو واقع بين أبناء البلد الواحد، أقصد بين المصريين أو المغاربة أو الجزائريين أو الأتراك إلخ.. كذلك يَلْقى بعض الوافدين معاملة غير أخوية من إخوانهم المسلمين. أعرف كثيرا من المساجد عندما تدخل إليها تشعر براحة نفسية وسكينة قلبية ولذة روحية، وذلك من حسن ما تلقاه من صفاء الأخوة وكرم المعاملة وصدق المشاعر. وهناك بعض المساجد لا تلقى الوجه الطلق ولا الترحاب الذى يسعدك، أخوٍَة الإسلام تجمعنا، ورب أخ لك لم تلده أمك، ورسالة القرآن لنا: " ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ۖ "، لقد علمنا القرآن الكريم أن نربط دوما بين النتائج ومقدماتها وأن نعطي الجهد الأكبر والعناية الأوفى لتأسيس وتقوية الصف الداخلي فهو الذي يمثل المناعة والحصانة الداخلية.
كما شاع الباطل وترسخت الخرافات بالجهل وجب إزاحتها بالعلم والفكر، بالكتابة والتأليف، بتصحيح المفاهيم، برد الشبهات، بإشاعة المعارف الصحيحة. كيف واجه الإسلام دعوات العنصرية؟ القرآن الكريم هو رسالة الإنسان كله وقد تكرر لفظ الإنسان والناس وبني آدم مئات المرات، ومن البدائع أنَّ الله بدأ كتابه في سورة الفاتحة بـ"رب العالمين" واختتمه بسورة الناس. التكريم والمساواة والعدل والمواساة كلها قيم قرآنية مطلقة لا تعرف النسبية أبدا "ولقد كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا" (70) سورة الإسراء. لقد غضب الرسول صلى الله عليه وسلم من أبي ذر الغفاري رضى الله عنه حينما سبَّ بلالا وعيره بلونه فقال له: "إنك امرؤ فيك جاهلية". وأعلن في حجة الوداع فكرة "وحدة الأصل الإنساني" ففال: "كلكم لآدم وآدم من تراب"، وزَوَّج زينب بنت حجش لصحابي جليل كان قبل سنوات عبدا يُدعى "زيدا بن محمد"، والأمثلة كثيرة في السيرة النبوية.
يجب تسليط الضوء على التراث الإنساني الإسلامي والأوروبي الذي أفادت منه الحضارة الإسلامية والأوروبية، كما يجب إظهار الفترات التاريخية التي ازدهرت فيها العلاقات بين الشرق والغرب وإبراز الكتابات المنصفة على الجانبين الإسلامي والأوروبي. تلك الجهود العلمية والفكرية يجب أن يبتدرها المسلمون وغير المسلمين. إنَّ على العقلاء مَعقد الرجاء والأمل، ويجب أن ترتفع أصواتهم لتَخْفُت أصوات البُوم والغربان. ولا يصح أن أن نستدعي فترات الصراع التاريخية في واقعنا الأوروبي حيث أننا ننتمي لأوروبا وطنا، وستأتي أجيال بعد سنين لن تعرف بلدا غير هذه البلاد، ولا أقول أن ننفصل عن أمتنا الإسلامية، لكن في نفس الوقت أن ندرك أن هذا وطننا، وليس ثمَّة تعارض بين تعدد الانتماءات في كل الأحوال .
لا ريب أن التوجه الرسمي الحكومي والخطاب الذي يُعلي من شأن التعددية الثقافية داخل المجتمع وينظم الحقوق والواجبات على أساس المواطنة له أثره الكبير. كما يجب سن قوانين تحمي المجتمع من دعوات الكراهية والعنصرية وتأجيج الصراع بين الناس. وهنا علينا أن نَذكر باعتزاز المواقف الإيجابية للمسؤولين الأوروبين الذي يتخذون مواقف إيجابية من المسلمين، ولا ينسى أحد تصريحات الرئيس الألماني السابق ومن بعده المستشارة ميركل بأن الإسلام جزء من ألمانيا. والحق أنهما لم يتجاوزا الحقيقة فإن مسلمي ألمانيا وأوروبا غدوا يشكلون قوة مضافة لصالح المجتمعات الأوروبية على جميع المستويات.
المشاركة الاجتماعية لها صور كثيرة وهى البوابة الواسعة للتأثير، حيث تتميز بالسهولة وسرعة الإنجاز، فكل فرد في المجتمع الألماني يستطيع أن يتواصل مع جيرانه، ويشبك علاقات اجتماعية ناضجة |
تتحمل بعض وسائل الإعلام نصيبا كبيرا في ترسيخ وإحلال القيم الإنسانية داخل المجتمع، وتتحمل كذلك وزرا كبيرا من انتشار الخوف من الإسلام. وعلينا أن نتحلى بالمسؤولية والحكمة والوعي فيما نكتب وننشر، ويؤسفنى القول بأننا لا نراعي أحيانا الواقع الذي نعيش فيه فيما ننشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي. فالعلم والوعي والتروي والحكمة.. عنوان السلامة. والواجب على مسلمي أوروبا ومؤسساتهم أن يهتموا اهتماما وافيا بوسائل الإعلام وتفعيلها في إيصال رسالتنا للناس والاهتمام بقضايا الوجود الإسلامي وقضايا المجتمع الأوروبي الذي نحن جزء لا يتجزأ منه. لقد تأخرنا كثيرا في توظيف وسائل الإعلام المتاحة فضلا عن إطلاق مؤسسات إعلامية محترفة. أعلم أن الصعوبات كبيرة والعقبات كثيرة، لكن ينبغى أن نستدرك ما فاتنا، والكوادر الشبابية كثيرة وتقدر على تحقيق إنجازات كبيرة في هذا الميدان الهام.
أقصد بهذه المؤسسات:
– المؤسسات والروابط الإسلامية
– المساجد والمراكز الإسلامية بأوروبا
– الكنائس
– مؤسسات العمل المجتمعي المختلفة
يجب تكثيف الجهود في إطار الحوار والعمل المشترك بين المؤسسات الإسلامية ومؤسسات المجتمع كافة . إننا نعيش في أوروبا أحيانا كأننا في جزر منعزلة عن غيرنا، هناك مساجد لا يعرف الجيران عنها شيئاً، والفرص للتواصل مع مؤسسات المجتمع الأوروبي كبيرة، ودوما نقول: "الفرص أكبر من العقبات".
يقولون: الطبيعة تأبى الفراغ، وهذا يجري على الأشياء والعلاقات والأعمال، فكل مساحة فارغة لا نستفيد منها في التواصل مع المجتمع والمشاركة الواسعة الصادقة المثمرة من أجل دعم سبل العيش المشترك وترسيخ السلام الاجتماعي فلنعلم أن هذه المساحة سنخسرها لصالح دعاة الظلم والكراهية. والمشاركة الاجتماعية لها صور كثيرة وهى البوابة الواسعة للتأثير، حيث تتميز بالسهولة وسرعة الإنجاز، فكل فرد في المجتمع الألماني يستطيع أن يتواصل مع جيرانه، ويشبك علاقات اجتماعية ناضجة مع زملائه في العمل، كذلك تشمل تفاعل الآباء مع أنشطة روضات الأطفال والمدارس، والمشاركة في مجالس الطلبة في الجامعات، ومجالس الأجانب وغير ذلك من الدوائر العديدة التي يغيب عنها كثير من المسلمين ولا يتناسب حجم مشاركتهم مع عددهم. ولا ريب أن عزلتنا عن المشاركة في المناسبات المختلفة التي تتعلق بالمجتمع أحد أسباب جهل الكثيرين بنا وبرسالتنا.
في مدن أوروبية عديدة تحظى بوجود إسلامي بشري وافر وعندما تحين استحقاقات انتخابية تأتى النتائج بمشاركة هزيلة من مسلمي تلك المدن، وكأنهم يتصدقون بأصواتهم على اليمين المتطرف!والمؤسف حقا أن كثيرا من المسلمين يرون أن المشاركة السياسية من نافلة الأعمال، والأسباب الكامنة خلف هذه السلبية متعددة ليس محل بحثها الآن، وحتى لا نغفل الجانب الإيجابي فإننا نرى أن هناك تطورا لا ريب فيه في الأداء السياسي لدى مسلمي أوروبا، لكننا بحاجة لمزيد من جهود المؤسسات الإسلامية على الساحة الأوروبية، ولعلَّ الزمان جزء من الإنجاز. لن تهزم الكراهية المحبة، ولن ينتصر اليأس على الأمل، ولن يحجب ظلام الليل نور الصباح، ولن تمنع السحب وإن تزاحمت أشعة الشمس، ولن يُسكت دعاة العنصرية وصنَّاع الخوف أصوات ناشري التسامح والمحبة بين الناس. "وقل اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ" (105) سورة التوبة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.