في بداية العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين قامت الشعوب العربية بعدة ثورات سلمية أدت لتغيير أنظمة الحكم في عدة بلدان عربية، كما اشتعلت الحرب في سوريا كنتيجة لوصول شرارة ثورات الربيع العربي إليها، وقابل الغرب تلك الثورات في البداية بترحاب شديد، وبينما جاء رد فعل روسيا على إسقاط الغرب لنظام القذافي بإظهار بعض الامتعاض، كان رد فعل روسيا عنيف في حالة الثورة السورية بلغ لحد دعم النظام عسكريا ضد فصائل الثورة السورية، مما أدي لفشل إسقاط النظام الحاكم في سوريا.
كما تم إفشال كل الثورات العربية بدعم خليجي ومباركة الغرب، الأمر الذي يفتح المجال للعديد من التكهنات التي تحاول تفسير علاقة تلك الثورات والثورات المضادة بالصراع الجيوسياسي بين أمريكا وروسيا في تلك المنطقة الملتهبة من العالم، وهل تلك الثورات تعتبر إستكمالا لمسلسل الثورات الملونة التي ضربت حلفاء موسكو في بدايات القرن العشرين؟ حيث يتشابه ما يحدث اليوم مع ما حدث عقب انهيار الاتحاد السوفيتي وقيام عدة انتفاضات وثورات شعبية في شرق أوروبا، أدت لفك ارتباط دول أوروبا الشرقية مع موسكو، وتبعه انضمام عشر دول لحلف الناتو، كما ضرب فيرس الثورات معظم الدول الحليفة لروسيا في بداية الألفية مثل صربيا وجورجيا وأوكرانيا.
ذهب الكثير من المحللين الاستراتيجيين إلى أن الغرض الجيوسياسي من دعم أمريكا لتلك الانتفاضات التي انطلقت في المحيط الحيوي لروسيا، ينطلق من محاولة الوصول إلى مكامن وجود الغاز في وسط أسيا |
تحول التحالف الأمريكي السوفيتي في الحرب العالمية الثانية إلى علاقات متوترة وحروب بالوكالة بينهما، وحاول كل طرف استنزاف الأخر ماليا وعسكريا مثلما حدث في فيتنام وأفغانستان في ستينات وثمانيينات القرن الماضي، إلا أن الاتحاد السوفيتي قد تأثر بشدة بانخفاض أسعارالنفط في الثمانينيات، لينتهي ذلك العقد بانهيار الاتحاد السوفيتي في 1989، وتوالت الثورات في دول أوروبا الشرقية المطالبة بانتهاء تبعيتها لموسكو، وبدأت تلك الشرارة في بولندا ثم المجر وتشيكوسلوفاكيا مرورا بدول البلطيق الثلاث، انتهاءا بسقوط حائط برلين، قبل أن تعلن موسكو نهاية 1991 تفكك الاتحاد السوفيتي رسميا.
وفي نفس السياق اشتعلت المظاهرات في الميدان السماوي في بكين عام 1989، في تمدد واضح لثورات شرق أوروبا، إلا أن الحكومة الشيوعية سحقت المحتجين تحت جنازير الدبابات، كما اشتعلت انتفاضة شعبية في الجزائر الحليف القديم لموسكو، متأثرة بأزمة اقتصادية نتيجة انخفاض أسعار النفط، وانتهت بوصول الإسلاميين إلى الحكم تبعه انقلاب عسكري دموي.
بعد تحول شرق أوروبا للمعسكر الغربي بقيت منطقة البلقان هي المنطقة الأخيرة في أوروبا التي لا تزال لها روابط دينية وعرقية وسياسية مع موسكو فكان لابد من تفكيكها إلى دويلات يسهل التهامها منفرده، وهو ما حدث في الفترة بين 1992 و1997، إلا أن محاولة ألبان كوسوفو الاستقلال عن صربيا بعد الغاء الحكم الذاتي للإقليم، قوبلت بعمليات عسكرية من الجيش الصربي، الأمر الذي رد عليه الناتو بضربات جوية في عام 1999، قبل أن تنسحب القوات الصربية وتسلم الإقليم لحلف الناتو. لم تكن الضربات الجوية هي أخر الأوراق الأمريكية لإزاحة الرئيس الصربي، فقد شهدت الانتخابات الصربية عام 2000 موجة من الاحتجاجات التي اتهمت النظام بالتزوير، انتهت بالإطاحة بنظام حكم ميلوسوفيتش عبر ثورة سميت بالثورة البيضاء.
علقت مجلة كاونتر بنتش اليسارية الأميركية على أحداث أوكرانيا عام 2004 بأن ما جرى في أوكرانيا ليس أكثر من انقلاب أميركي مدبر تماما مثل ذلك الانقلاب الذي دعمته الولايات المتحدة ضد رئيس جورجيا السابق إدوارد شيفارنادزة عام 2003. وكشفت المجلة عن دور منظمات تابعة للإدارة الأمريكية مهمتها صناعة الثورات الشعبية مثل منظمة (العطاء الوطني من أجل الحرية) ومؤسسة (كارنيجي للسلام الدولي) و(بيت الحرية) و(معهد جورج سوروس للمجتمع المفتوح) والتي ساهمت بصورة أو بأخرى في تمويل حملة فيكتور يوتشنكو المرشح المؤيد للغرب في انتخابات الرئاسة الأوكرانية.
ساعد نجاح تلك الموجات الثورية في صربيا وجورجيا وأوكرانيا، إلى حدوث هبات شعبية وثورات في عدة دول خاضعة للنفوذ الروسي بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، كما حدث في لبنان عام 2005 (ثورة الأرز) بعد إغتيال الحريري عام 2005، والتي طالبت بإنهاء الوجود السوري العسكري في لبنان (وهو ما حدث بعد ضغوط أمريكية)، كما حدثت انتفاضة شعبية ضد تزوير الانتخابات في روسيا البيضاء عام 2006 (ثورة الجينز) إلا أنها أخمدت سريعا.
ذهب الكثير من المحللين الاستراتيجيين إلى أن الغرض الجيوسياسي من دعم أمريكا لتلك الانتفاضات التي انطلقت في المحيط الحيوي لروسيا، ينطلق من محاولة الوصول إلى مكامن وجود الغاز في وسط أسيا، بالتوازي مع قطع خطوط الغاز الروسية التي تغذي أوروبا بثلث احتياجاتها من الغاز، عبر شبكة أنابيب تمر بأوكرانيا وروسيا البيضاء. حيث كانت تطمح أمريكا في تمديد خطوط غاز من مكامن الغاز في تركمنستان وأذربيجان إلى أوروبا عبر جورجيا وتركيا، ومن ثم تخترق أوروبا عبر بلغاريا وصربيا والمجر، بالتوازي مع دعم وصول حكومات موالية للغرب في كل من أوكرانيا وروسيا البيضاء لمحاولة وقف ضخ الغاز الروسي لغرب أوروبا.
نجحت الجهود الروسية في تضييق الخناق على النفوذ الأمريكي العسكري في أسيا الوسطي بعد إغلاق قيرغيزستان أوزباكستان للقواعد الأمريكية بينما رفضت كازاخستان وأذربيجان أي تواجد عسكري أمريكي، وبالتالي أفشلت خطتها في الوصول لمكامن الغاز |
وتماشيا مع المخطط الأمريكي الهادف لتوفير بدائل للغاز الروسي لأوروبا، أشرفت أمريكا على تنفيذ مشروعات لنقل الغاز الجزائري والليبي إلى أسبانيا وإيطاليا، كما ساهم تطور تكنولوجيا الحفر في اكتشاف كميات كبيرة من الغاز في شرق المتوسط، الأمر الذي أدى لطرح عدة مشروعات لنقل غاز شرق المتوسط لأوروبا، إلا أن فتور العلاقات بين مبارك وبوش الإبن كان واضح بعد 2004، (بسبب رفض أمريكا لمشروع التوريث فضلا عن تجميد مبارك لمشروع توطين الفلسطينيين في سيناء)، الأمر الذي دفع مبارك لفتح المجال أمام الشركات الصينية واليابانية لتصنيع حفارات للتنقيب عن الغاز في المتوسط، ومحاولة استخراجه بعيدا عن الشركات الأمريكية والأوروبية، التي قامت بتقليل استثماراتها في مصر في تلك الفترة مثل شركة شل، كرد فعل علي توجه مصر شرقا.
تم التوصل عام 2009 لاتفاق لمد خط غاز من أكبر حقل غاز في العالم في الخليج العربي لأوروبا، ليمر عبر الأردن وسوريا وتركيا، في محاولة لايقاف هيمنة الغاز الروسي على مبيعات الغاز في شرق ووسط أوروبا، إلا أن الضغوط الروسية والإيرانية على بشار جمدت المشروع الذي يهدد مبيعات الغاز الروسي في القارة العجوز. وفي سياق أخر شهدت الساحة الليبية تغيرات دراماتيكية، فبالرغم من رضوخ القذافي للضغوط الأمريكية في 2004، بعد غزو العراق، إلا أنه حاول الخروج مجددا عن النص عام 2010 عبر البدء في طباعة الدينار الذهبي الإفريقي ليكون بديلا عن الفرنك الإفريقي الذي تستخدمه مستعمرات فرنسا السابقة في إفريقيا، وهو ما يهدد النفوذ الفرنسي في إفريقيا، فضلا عن تهديده تلك العملة للدولار الأمريكي، وهو ما تم رصده عبر أجهزة المخابرات الغربية.
بدأت أمريكا محاولة نشر الديموقراطية ودعم المنظمات الحقوقية عبر تدريب الشباب الثوري من خلال منظمات ومعاهد أمريكية تابعة للمخابرات الأمريكية مثلما حدث في صربيا عام 2009 من تدريب شباب بواسطة مؤسسة فريدم هاوس الأمريكية، في سبيل صناعة وتدريب كوادر تقود الثورة المحتملة.
كما ضغطت أمريكا علي الحكومات العربية في المنطقة منذ عام 2005 من أجل إفساح المجال لوسائل الإعلام المستقلة والمعارضة لتغطية جميع فاعليات الاحتجاجات العمالية والفئوية في مصر بين عامي 2005 و2010.
وفي سياق آخر فإن معظم الثورات الملونة التي دعمتها أمريكا اشتعلت عقب تزوير الانتخابات في كل من صربيا وجورجيا وأوكرانيا وبيلاروسيا وقيرغيزستان، وهو ما حدث نهاية 2010 في مصر، حيث بدأت سلسلة من الاحتجاجات ضد تزوير الانتخابات، إلا أن عدوي الاحتجاجات الشعبية كانت قد وصلت لتونس، وهو ما تمثل في الاحتجاجات الواسعة التي اشتعلت عقب حرق البوعزيزي لنفسه، ووقف الجيش على الحياد وسط صمت فرنسي مريب، الأمر الذي ساهم في سقوط نظام بن علي بسهولة. نجاح الثورة التونسية جاء كشرارة أشعلت التظاهرات في مصر وعدة دول عربية، وتدخلت أمريكا عسكريا لمساعدة الثوار الليبيين في الإطاحة بالقذافي، بينما دعمت روسيا حكومة بشار لمنعها من السقوط.
نجحت الجهود الروسية في تضييق الخناق على النفوذ الأمريكي العسكري في أسيا الوسطي بعد إغلاق قيرغيزستان أوزباكستان للقواعد الأمريكية بينما رفضت كازاخستان وأذربيجان أي تواجد عسكري أمريكي، وبالتالي أفشلت خطتها في الوصول لمكامن الغاز، لكن الرد الأمريكي جاء من الغرب عبر دعم المعارضة الأوكرانية الموالية لها في الوصول للسلطة في نفس العام. تري هل تستمر تلك اللعبة الجيوسياسية التي تدفع ثمنها شعوب المنطقة أم آن الأوان لكي تكون تلك الشعوب طرفا في تلك المعادلة وتنتزع حريتها؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.