نتلقى في حياتنا التعليم من مصادر عدة، منها الأسرة والمدرسة والشارع والأصدقاء وتجارب الحياة التي تعلمنا كل يوم باستمرار، والتي لن تتوقف عن تعليمنا أشياء جديدة حتى آخر يوم في حياتنا، فأن تتعلم باستمرار يعني أن تنظف مخزون عقلك باستمرار من كل ما علق به من معلومات وأحداث ومُدخلات أثبتت عدم صحتها أو مصداقيتها أو حتى دقتها، وأن تستبدلها بما هو أكثر صحة ودقة ومصداقية ومنطق، وهذا التنظيف لا يفرّق بين شاب العشرينات وكهل التسعينات، فها هو الإمام أحمد ما زال يتعلم حتى آخر يوم في حياته، وعندما رأى رجل محبرة معه قال له "يا أبا عبد الله، أنت قد بلغت هذا المبلغ وأنت إمام المسلمين، ومعك المَحبَرَةُ تحملها، فقال: مع المَحبَرة إلى المقبرة". وهذا إن دلّ على شيء فإنه يدل على أن ليس هناك عمر محدد للتعلم والاستزادة من العلم، وليس هناك غرور وكبرياء في طلب المزيد منه مهما كان منصبك وفي أي وقت وفي أي مكان وفي أي عمر كان.
علّماني أن العزة بالأفعال وليس فقط بالأقوال وأنك عندما تحترم شخصا فهذا لا يعني بالضرورة أنه محترم لكنه يعني بكل تأكيد أنك كذلك. علّماني أن يكون ما في رأسي أثمن مما في قدمي |
علّماني أن القوة ليست بالضرورة بالصوت المرتفع ولا بالكلام الجارح ولا باليد الباطشة، إنما القوة هي أن تمسك نفسك التي أنت قادر عليها، وأن تعدّل عيوبك التي أنت مسؤول عنها، وأن تربّي نفسك قبل أن تتولى مهمة تربية الآخرين، لكن بالمقابل أن لا أستهين بحقي وأن أعبّر عن رأيي بلا خوف ولا وجل لكن باحترام، المهم أن يكون هو الحق ولا أخشى في الله لومة لائم. علمني أبي..علمتني أمي أن المغرور لا يصادَق وإن أعجبتني قشوره في البداية، فقد تفقد جمال روحك بقبح ما عنده مع الأيام، وأن لا أضيّع وقتي مع من يتكلم عن نفسه كثيرا فهو لن يعلمك شيئا قطعا بل سيضيّع وقتك كي يستمتع هو بوقته. علّماني أن الصمت في بعض المواقف قوة خاصة إن كان لتأديب عديم الأدب الثرثار الذي لا يزيده الكلام سوى انحدار فيهوي بنفسه من نفسه. وأن ألمّع جوهري باستمرار، وعليه سيلمع مظهري تلقائيا. وأن أستمع إلى الجميع مهما كان، فكل شخص سيعلّمك شيئا لم يكن ليعلمك إياه شخص آخر. علّماني أن المبدأ في قمة الهرم وما بعده يأتي متماشيا معه لا ضده.
علمني أبي.. علمتني أمي، أن أكون قوية، قوية لنفسي و قوية لغيري، قوية في المطالبة بحقي والدفاع عن حق غيري إن هو عجز وأن قيمتي أكبر من أن أراها في عينيّ غيري فقد أشبعاني بها وما عاد الفائض منها يملأ شيئا فارغا في نفسي، وأن قيمة الإنسان بما قدّم لا بما أخذ، وأن التواضع رفعة وأن العطاء سعادة، وأن الكرم أصالة، وأن لا أردّ سائل ولا ملهوف فقد يسّرهم الله لي لأؤجر.
علّماني بصمتهم أكثر مما علماني بكلامهم. علّماني أن الخطأ نتعلم منه ولا نبكي عليه -إلا للتوبة- وأن باب التوبة مفتوح للجميع. علّماني بتواضعهم العزة، وبتعداد نعم الله عليهم الغنى، وبالصفح والتسامح القوة، وبالصمت في كثير من المواقف معاني لا تحصى. علّماني أن العزة بالأفعال وليس فقط بالأقوال وأنك عندما تحترم شخصا فهذا لا يعني بالضرورة أنه محترم لكنه يعني بكل تأكيد أنك كذلك. علّماني أن يكون ما في رأسي أثمن مما في قدمي، وأن أتذكر دوما قول رسول الله :"إنَّ الله لا ينظر إلى صوركم، ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم".
علمني أبي..علمتني أمي وما زالا يعلمانني في كل لحظة قريبين كانا أم بعيدين، صامتين أم متكلمين، سعيدين أم حزينين، وأتمنى لو يعلمانني الدهر بأكمله، وأن أبقى تلميذهم الذي يستمع ويناقش ويجادل، ويوافقهم الرأي أحيانا ولا يوافقهم بالمقابل أحيانا أخرى. فأن تكون تلميذا لأبويك يعني أنك في مدرسة خاصة لن تتخرج منها ما حييت! لكن مع فارق بسيط هو أنك أنت من يستمتع في هذه المدرسة ولا يريد مفارقتها. ومع كل ما علّماني إياه أحيانا أكون طالبا نجيبا مطبِّقا له وأحيانا أخرى أكون طالبا متمرّدا متسللا من سلطة القوانين العليا، فهكذا نحن البشر نخطئ ونصيب و لاعيب في ذلك، المهم أن نتدارك ما نحن قادرين على تداركه قبل فوات الأوان. ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا، وكما علّماني صغيرا.. وكبيرا.. وما زالا..
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.