شعار قسم مدونات

كيف نترجم Homosexuality؟

blogs الشذوذ الجنسي

كشخص يعمل في الترجمة يهمّني في أحيان كثيرة متابعة الجدل الدائر حول ترجمة بعض المصطلحات الحديثة، وتحديدا تلك المرتبطة بسياقات ومفاهيم حديثة، والتي عادة ما تحمل خللا في الترجمة يعود إلى إغفال أبعاد لغوية أو ثقافية مختلفة. من بين هذه المصطلحات المثيرة للجدل مصطلح Homosexuality الإنجليزي، والذي عادة ما يُترجم في الدوائر الأكاديمية بمصطلح "المِثْلية الجنسية"، وهي ترجمة حرفية للمصطلح الإنجليزي (وهو مهجّن من كلمة يونانية وكلمة لاتينية)، رغم أن الظاهرة نفسها موجودة قبل نشأة هذا المصطلح وقبل نشأة اللغة الإنجليزية. وفي سياقنا الثقافي العربي شاع استخدام مصطلح "الشذوذ الجنسي" باعتباره المقابل العربي للمصطلح، وباعتبار أنّ وجهة النظر الحضارية العربية والإسلامية ترى في الانجذاب الجنسي لأبناء نفس الجنس "شذوذًا" عن الحالة السويّة الطبيعية للبشر.

 

يوجّه أنصار مصطلح "المثلية الجنسية" النقد لمستخدمي مصطلح "الشذوذ الجنسي" بقولهم إنّه مصطلح مشحون بوجهة النظر الدينية، وأننا حين نريد ترجمة مصطلح علمي ينبغي أن نتخفف من آرائنا الدينية والقيمية، ومصطلح "الشذوذ الجنسي" يحمل حكما قيميّا، ولهذا فهو لا يصلح كترجمة علمية. أما أنصار مصطلح "الشذوذ الجنسي" فإنهم يوجّهون النقد لمستخدمي مصطلح "المثلية الجنسية" بقولهم إنّه ترجمة حرفية لا تراعي الاختلاف الثقافي والفكري والقيمي بين واضعي هذا المصطلح وبيننا كمسلمين.

 

الخلفية القيمية والتاريخية للمصطلحين
المسافة بين القيمة المعجمية التي يقدّمها المصطلح وبين المقصود منه في الواقع مسافة هائلة جدا، أي أنك لو كنت تسمع المصطلح للمرة الأولى قبل مائة عام مثلا، فلن يخطر على بالك حين يقال: "فلان مثليّ الجنس"

والواقع أن منشأ الاختلاف بين المصطلحين ليس أنّ أحدهما فيه حكم قيمي والآخر لا، بل منشؤه أنّ كل واحد منهما ينطلق من وجهة نظر مختلفة لوصف الظاهرة؛ فمصطلح "المثلية" ينطلق من أنّ صاحب هذه الميول ينجذب جنسيا وعاطفيّا إلى مَن هو مِثله في الجنس، ولذا فهو "مِثليّ"، أما مصطلح "الشذوذ" فينطلق من أنّ صاحب هذه الميول يمارس الجنس في غير موضعه الطبيعي السويّ، فالعملية الجنسية الطبيعية عند البشر وسائر الحيوانات ينبغي أن تتم بين ذكر وأنثى، حتى تكتمل نتائجها من إنجاب واستمرار للحياة، أي من باب أن العملية الجنسية ليست للذّة فحسب، بل لها هدف بيولوجي مرتبط بهدف وجود الكائنات على هذه الأرض.

 

ومن هذا التحليل يظهر أنّ كل مصطلح إنما بُني على وجهة نظر مختلفة، فمصطلح المثلية ينظر إلى الظاهرة لا كمحض ممارسة جنسية، بل كميل عام للجنس نفسه لا يشترط الممارسة "الشاذّة" (وإن كانت ترافق معظم الحالات)، وهو إلى جانب ذلك متأثر بأفكار الحرية وببعض الأفكار التي تغفل وجود الغاية من الحياة، فيفضّ الارتباط بين "العملية الجنسية" وبين "الإنجاب" و"التكاثر"، وحين نفضّ هذا الارتباط يتمحور دور العملية الجنسية عند البشر على "اللذّة" فحسب، ومن حق أي إنسان أن يحصل على تلك اللذة بالطريقة التي يحب كما تؤكّد المبادئ الليبرالية.

 

أما مصطلح "الشذوذ" فهو يركّز على الظاهرة باعتبارها ممارسة جنسية أولا وقبل كل شيء، فهكذا كانت تاريخيّا وما تزال في عالمنا العربي والإسلامي، أي أن هذا هو تمظهرها الأساسي، ومن ثم فهو يصفها بالشذوذ لأنّها تستخدم الأعضاء الجنسية في غير موضعها الطبيعي والفعّال في عملية التكاثر، بل في موضع مؤذٍ صحّيّا كما يُجمع الأطبّاء، وهذا يمكن وصفه علميا بأنّه "شذوذ" عن الحالة الطبيعية السوية للممارسة الجنسية. هذا التحليل لخلفية المصطلحين ضروري حتى لا يكون الحوار بيننا حوار طرشان، إذ يجب على كل طرف أن يدرك بأن الاصطلاح الذي يتبناه لا يمثّل وصفا علميّا محايدًا، بل كل مصطلح منهما مرتبط ارتباطا عضويّا بالصيرورة التاريخية والقيمية لنشأته، وليس صحيحا ما يُقال من أنّ مصطلح "المِثلية الجنسية" هو المصطلح "العلمي"، ومن يقول ذلك يفترض مصداقية الترجمة الحرفية عن المصطلح الإنجليزي، ويفترض قبل ذلك التجرّد التام للمصطلح عن الفكر والقيم الغربية، وهذا غير صحيح.

 

إشكاليات لغوية في مصطلح "المثليّة"

ثمة إشكاليات لغوية وبلاغية في مصطلح "المثليّة الجنسية"، والذي عادة ما يُذكر في سياقنا العربي بالكلمة الأولى فقط، فيقال: "مِثليّة"، أو "مِثليّ" لمن يحمل هذه الميول. الإشكالية الأولى هي أن المسافة بين القيمة المعجمية التي يقدّمها المصطلح وبين المقصود منه في الواقع مسافة هائلة جدا، أي أنك لو كنت تسمع المصطلح للمرة الأولى قبل مائة عام مثلا، فلن يخطر على بالك حين يقال: "فلان مثليّ الجنس" أنّ المقصود هو أنه يحمل ميولا جنسية وعاطفية تجاه أبناء جنسه.

 

والمصطلح الناجح هو الذي يحاول جَسْر هذه الهوة بين "الاسم" و"المسمّى"، لكن يبدو أن واضعي المصطلح لم يفكّروا في ذلك أساسا؛ لأنّه مجرّد ترجمة حرفية لمصطلح Homosexuality (كلمة homos عن اليونانية تعني: نَفْس، وبالإنجليزية same)، ومن ثم فقد تنازل مترجمو المصطلح عن أحد أهم الأركان في وضع مصطلح لوصف ظاهرة ما، مع العلم بأنّ هذه الظاهرة موجودة قبل وضع المصطلح الغربي لها، وانطلاقا من هذه الحقيقة يبدو أنّ السعي إلى صكّ مصطلح عربي جديد لها أكثر جدوى من الترجمة الحرفية التي تحصر الخيارات بل تقتلها! الإشكالية اللغوية الثانية هي أنّ اللغة العربية لا تعرف النسبة إلى كلمة من جنس "مِثْل"، فعادة ما تكون النسبة إلى بلد أو قبيلة أو مهنة أو صفة أو ما شابه من أمور تبدو النسبة إليها منطقية، أما كلمة "مثليّ" فهي نسبة إلى "مِثْل"، وتبدو بلا معنى بهذا الشكل وفي أقصى الحالات يكون التعبير ركيكًا كما لو كانت العربية قد خلتْ من المفردات الدقيقة لوصف هذه الظاهرة!

 

نظرة إلى المصطلحات العربية التاريخية
اتضح إذن أن مصطلح "الشذوذ الجنسي" وإنْ كان محمّلا بالقيمة، ولكن هذه القيمة منجدلة بالحقيقة البيولوجية والإحصائية ومتّسقة معها

يبدو أن إحدى الإشكاليات الأخرى لترجمة هذا المصطلح تنبع من التاريخ، ذلك أن العربية تنزع دائما من خلال أقلام كتابها وأدبائها وحكّائيها إلى توصيف الأشياء في سياقاتها المختلفة، وهذه إحدى ميزات الثقافة العربية التي يجهلها من يبحثون دائما عن ترجمة بكلمة واحدة لمصطلح أجنبي! فكثيرا ما تعبّر العربية بمفردات مختلفة بحسب كل سياق. وفي سياق الحديث عن هذه الظاهرة نجد في التراث العربي أوصافا مختلفة نشأت عن سياقات مختلفة، فهناك وصف "اللوطي" نسبة إلى قوم لوط، وهو مصطلح إشكالي أولا لانحصاره في تجربة قوم بائدين، وثانيا لكونه يسيء إلى أحد الأنبياء إذ النسبة تكون إليه!

 

وهناك وصف "المخنّث"، وهو وصف أطلق على فئة من الذكور الذين شابهوا النساء في حركاتهم، وهناك "اللاطة"، وهو وصف لأولئك الذين ينجذبون إلى الغلمان والمُرد، وهناك "المؤاجَرين"، وعادة ما يكونون من المُرد الذين يُبيحون أنفسهم للاطة بأجر. فهذه الأوصاف كلها مرتبطة بسياقات تاريخية، وأعتقد أن علينا النظر إليها وفهمها في سياقاتها ثم تجاوزها وصولا إلى اشتقاق اصطلاح معاصر يعبّر عن ظاهرة الميل الجنسي والعاطفي لأفراد نفس الجنس عمومًا. ولهذا لا يصح وصف من يحمل هذا الميل بالمخنّث أو المؤاجَر أو غير ذلك من الأوصاف المرتبطة بممارسة معينة أو سياق خاص.

 

الجمع بين البلاغة اللغوية والتوصيف الدقيق

 يبدو إذن أننا لسنا بحاجة إلى ترجمة مصطلح Homosexuality، بل نحن بحاجة إلى اجتراح مصطلحنا العربي المستقلّ، وينبغي لهذا المصطلح الذي نبحث عنه أن يحقق بلاغة العربية ودقتها في التوصيف، تلك اللغة التي من العيب أن نترك كل مفرداتها وممكناتها التعبيرية لنحصر أنفسنا في اصطلاح إشكالي يبدو في غاية الركاكة حين يُترجم للعربية، أعني مصطلح "المثلية الجنسية"، والذي يضعون مقابله مصطلح "المغايرة الجنسية" (ترجمة حرفية لـ Heterosexuality)، والذي يعنون به الانجذاب العاطفي والجنسي الطبيعي بين الرجل والمرأة!

 

تخيل أيها القارئ أن نصل إلى وضع نعبّر فيه عن الحالة الطبيعية للكائنات الحية وللإنسان، وهي انجذاب الذكر للأنثى، بمصطلح مثل "المغايَرة الجنسية"! فالمصطلح يوحي بأنّنا نتحدث عن توجّه جنسي "مختلف" عن الحالة الطبيعية الشائعة، بل قد جاء في تعريفه في موقع الموسوعة الحرّة "ويكيبيديا" باللغة العربية على النحو التالي: "هي نوع من التوجه الجنسي، يبين بالحب الغرامي أو الشهوة الجنسية لأشخاص أو حتى السلوك أو ممارسة الجنس مع الجنس المغاير، أي بين رجل وامرأة، ويكون هذا التوجه عكس المثلية". ومن يقرأ هذا الكلام يشعر أننا نتحدث عن حالة مرَضية أو نادرة خلاف الأصل! والحقيقة أنهم يصفون الحالة الطبيعية التي توالدت بسببها أجيال البشرية بل وأجيال الحيوانات عبر آلاف السنين، والتي لولاها لانقرضت حياة البشر والحيوانات عن وجه الأرض! فأي حياد علمي مزعوم ذاك الذي يتكلّف هذا التعريف المملّ الركيك لشيء راسخ في غريزة البشر والحيوانات؟!

 

لهذا كله أرى أن مصطلح "الشذوذ الجنسي" لوصف حالة الانجذاب الجنسي لنفس الجنس (أي ذكر لذكر أو أنثى لأنثى) هو الأكثر علمية وحيادا، رغم أنه لا يخلو من القيمة، فهو يصف حالة تعتبر "شاذّة" باعتبارين واقعيين وليسا دينيين:

1) الاعتبار البيولوجي: إذ إنّ الممارسة الجنسية بين الجنسين المختلفين (الذكر والأنثى) هي وحدها الكفيلة باستمرار الحياة البشرية، أي ببقاء الجنس البشري. ومن ثم فالحالة التي ينعدم فيها هذا التواصل الجنسي الضروري لتكاثر البشر وبقائهم توصف بأنّها "شاذّة".

2) الاعتبار الإحصائي: الغالبية الساحقة للبشر اليوم ينجذبون عاطفيا وجنسيا للجنس الآخر، وقلة "شاذّة" من حيث العدد هي التي تنجذب للجنس نفسه.

 

والدلالة اللغوية لكلمة "الشذوذ" هي الانفراد عن الجمهور أو الندرة، جاء في "لسان العرب": "شَذَّ عنه يَشِذُّ ويَشُذُّ شذوذاً: انفرد عن الجمهور وندر، فهو شاذٌّ، وأَشذُّه غيره. ابن سيده: شَذَّ الشَّيءُ يَشِذُّ شَذّاً وشُذوذاً: ندر عن جمهوره". فالكلمة في أصلها اللغوي محايدة في التوصيف بالاعتبارين البيولوجي والإحصائي، وإنما جاءت ظلالها السيّئة حين نطلقها على أحدهم لِما يحمله المجتمع من مواقف أخلاقية تجاه الظاهرة، والتي باتت جزءًا من دلالة المصطلح. اتضح إذن أن مصطلح "الشذوذ الجنسي" وإنْ كان محمّلا بالقيمة، ولكن هذه القيمة منجدلة بالحقيقة البيولوجية والإحصائية ومتّسقة معها، بينما القيمة التي يحملها مصطلح "المِثلية الجنسية" تتمثّل بفضّ الارتباط بين العملية الجنسية وغاية التكاثر وحصرها باللذة، وبإعلاء قيمة الحرية الفردية حتى لو ارتبطت بمشاكل صحية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.