شعار قسم مدونات

الصحافة الرقمية.. هل أصبح إنتاج الخبر سلعة تجارية؟

blogs التواصل الاجتماعي

مرت الصحافة بمراحل عدة وتغير تأثير الصحافة على المواطن بتغير أدواتها، فلو عدنا بالزمن إلى الوراء سنجد أن انطلاقة الصحافة الفعلية كانت بعد ظهور الجرائد والمجلات التي بدأت فكرتها في دول أوروبية كفرنسا وبريطانيا قبل بزوغها في الولايات المتحدة الأمريكية، لم تُؤخذ الصحف والمجلات على محمل الجد في البدايات خاصة أن طبيعة الصحافة كانت ترتكز على العناوين البراقة والمعلومات الكاذبة أو الغير موثوقة.

    

مع مرور الوقت بدأت الصحافة الغربية تتأثر بوجود مؤسسات صحفية عملت على تفادي الاندفاع وراء فكرة الصحافة الصفراء وبدأت تصدّر صحفاً ومجلات ذات طابع لغوي بسيط ومفهوم للعامة مع مراعاة الالتزام بالمصادر الموثوقة والعناوين الدقيقة. بذلك أصبحت الصحافة رمزاً للخبر السليم والمصدر الوحيد المؤَهل لملاحقة المسؤولين، والحكومات، والسلطات الأمنية (watchdog) ورسمت الصحافة الغربية منحىً جديداً للإنتاج الخبري الذي كان سبباً في تغيير أحداث سياسية عدة مثل ما حدث في فضيحة ووتر جيت "Watergate" التي اضطر فيها الرئيس الأمريكي ريجارد نيكسون التنحي عن كرسي الرئاسة جراء تعقب صحفيي جريدة "Washington Post" عملية التجسس التي قام بها هو وبعض المنتسبين للحزب الجمهوري في مبنى اللجنة الوطنية الديموقراطية.

  

ظلت الصحافة المصدر الأول والأخير للمعلومة الموثوقة وظل الصحفيّون هم الفئة الوحيدة المؤهلة لإصدار المعلومات للعامة. المشكلة آنذاك أن الصحفي أصبح تابعاً فقط لرؤية المؤسسة الصحفية المنتسب إليها بكل أفكارها وأيدولوجياتها السلبية والإيجابية معا. وباتت الصحافة التقليدية تنشر فقط الأخبار التي تراها جديرة بالنشر للطبقة المثقفة أو العليا في المجتمع. وظلت صناعة الخبر حكراً على الصحفيين والمؤسسات الممولة لهم حتى بعد أن بدأت الصحف التقليدية باستقبال اقتراحات من القرّاء عن طريق مكتب استعلاماتهم. هذه العملية كانت مكلفة كثيراً وغير فعّالة، خاصة أنها كانت تحتاج لإنشاء مكتب كامل يحتوي على عدد كبير من الموظفين لتفحص جميع الاقتراحات فضلاً عن تجاهل المؤسسات الصحفية للرأي العام.

   

undefined

   

هذا الواقع لم يدم طويلاً حتى تكثَّف استخدام الشبكة العنكبوتية في القرن الواحد والعشرين، الأمر الذي لم تأخذه الصحف والمؤسسات الإعلامية على محمل الجد. ومع دخول الانترنت المنزل وسهولة استخدامه من قبل الصغير والكبير أصبح الخبر متاحاً للجميع على منصات العالم الرقمي وبدأ المواطن يحصل على مبتغاه دون أي تكلفة مادية تذكر. في تلك الأثناء ومع صعود الصفحات الخبرية الإلكترونية المجانية بدأت الصحف التقليدية تعاني من شح متابعيها وأصبح مصدر دخلها المتمثل بأعداد الاشتراكات الضخمة يزول شيئاً فشيئاً. ومع دخول الصحف التقليدية المساحة الإلكترونية واجه صحفيو هذه المؤسسات صعوبات جمّة في نقل فكرة الاشتراكات "Membership" بصيغته الإلكترونية خصوصاً بعد ما أصبح المواطن معتاداَ على الخدمات الخبرية والمصادر الإلكترونية المجانية.

 

بدأت الدعايات والإعلانات تجتاح مواقع الصحف التقليدية إلا أن العديد من الزوار كانوا يتجنبون دخول هذه المواقع لكثرة وجود هذه الإعلانات وتأثيرها على تجربة قراءة الخبر التي تعوَّد القارئ أن تكون انسيابية قدر الإمكان. هنا بدأت الصحف والمواقع التقليدية تتنصل من سياساتها التحريرية التقليدية في نشر الخبر وبدأت تستمع لميول الجمهور الذي كان في السابق يحتل مساحة مهمَّشة في أولوياتها الخبرية. أصبح الصحفيون يتابعون تفاعلات الجمهور على الشبكة الإلكترونية متمثلة بمواقع التواصل الاجتماعي، وبدأت تعير انتباهها للأمور المُلفتة لانتباه الشارع حتى لو كان على حساب خططهم التحريرية التقليدية أو بالأحرى "المُقدسة".

  

لم تعد الصحف تهتم بالقضايا التقليدية أو الجادة فقط بل أصبحت تنشر الأخبار المعنية بأمور ثانوية كالترفيه، والموضة، والالكترونيات وبدأت الصحف تشكل صفحات متخصصة أو فرعية "Niche News Websites" لإصدار أخبار مكثفة عن واحدة من هذه الأمور التي لها جمهورها الخاص. ومع دخول الأدوات البحثية المتخصصة بدراسة المعلومات النوعية والكمية لزوار المواقع مثل برنامج "Google Analytics" أصبح باستطاعة الصحف توجيه أخبارها للفئات المتابعة لصفحاتهم بشدة "Loyal Viewers" والذين أصبحوا رأس مال هذه المؤسسات التي لا تستطيع الحفاظ على تمويلها دون المحافظة على عدد متابعيها. يقدم برنامج Google خاصية التعرف على عدد الزوار، والمدة الزمنية للزيارة، وميول الجمهور الخاص بالموقع.

 

يجب على الصحفي تقديم متطلبات الجمهور دون التخلي عن ثوابت الصحافة وأهدافها الرئيسية وهذا عادة يحتاج خبرة كافية وتمهل في اختيار الموضوع والمصادر

أصبحت معظم المؤسسات الإعلامية تعمل على فهم متابعيها من خلال هذه البرامج. فعلى سبيل المثال، بدأت مؤسسة TRT التركية كموقع وقناة إخبارية معنية بالأخبار التركية المحلية، إلا أن مع تدشينهم لموقع TRT International باللغة الإنجليزية وجدوا أن متابعيهم من الخارج كان أكثرهم من المهتمين بالقضايا الإسلامية ومواضيع الأقليات في البلاد الغربية وكانت شعوب دول آسيوية كباكستان والهند وماليزيا واندونيسيا هي المتابع الرئيسي لهذه القضايا. وعلى ذلك قام الموقع بتكثيف التقارير المتعلقة بالأقليات المسلمة ومعاناة اللاجئين والمهاجرين المسلمين حول العالم للحصول على عدد مشاهدات أكبر.

 

قناة وموقع Fox News الأمريكي يعتمد كلياً على جذب انتباه الشريحة العنصرية أو المتعصبين البيض "White Supremacists" المنحدرين من أصول أوروبية، من خلال اعتمادهم على نشر معلومات مغلوطة وتهويل حجم المشاكل الناتجة عن استضافة اللاجئين. ارتكز ترمب على معلوماتهم لدرجة أنه تهكم على أحد صحفيي قناة CNN العريقة بأعداد متابعيها الأقل مقارنة بعدد متابعي Fox News وهو قد يكون الأمر الوحيد الذي صدق فيه. فمؤسسة Fox News تعلم جيداً ميول متابعيها ونعراتهم العرقية الموجهة ضد الديموقراطيين، والأقليات، والليبراليين المنادين بحرية جميع الأطياف الأمريكية.

   

مع وجود عدة إيجابيات لمفهوم تحليل البيانات إلا أن هناك سلبيات عدة يرى العديد من الصحفيين التقليديين أنها مناقضة لهدف الصحافة الرئيسي. بالرغم من أن تحليل بيانات المتابعين أتاح فرصة أكبر للجمهور بالتأثير على صناعة الخبر لدرجة أن الجمهور أصبح أولوية لدى غرَف الأخبار في بعض الحالات إلا أنه قد يضع المشاهد أو القارئ في فقاعة مليئة بأفكار متماثلة نتيجة لإصدار الأخبار التي يريدها الجمهور دون امعان النظر فيما يحتاج الشارع لقراءته. ويرى بعض الصحفيين أن الاهتمام بالجمهور تعدى حدود سيادتهم "Journalists’ Autonomy" كونهم أصحاب المهنة وخبرائها ليصبح الصحفي مجرد موظف هدفه الرئيسي إرضاء القارئ بدلاً من إرضاء ضميره الصحفي.

   

أصبحت الصحافة تحت رحمة العالم الإلكتروني ومتطلبات الشارع نظراً لمشاكل التمويل التي باتت معضلة انتاج الخبر في زمننا الحالي. ومع وجود سلبيات عدة لترويج الأخبار المناسبة فقط للجمهور إلا أن هناك سياسيات يمكن المؤسسات الإعلامية المعتمدة على مصدر دخل خاص القيام بتطبيقها. فمثلاً يجب على الصحفي تقديم متطلبات الجمهور دون التخلي عن ثوابت الصحافة وأهدافها الرئيسية وهذا عادة يحتاج خبرة كافية وتمهل في اختيار الموضوع والمصادر المعززة لدقة التقرير الخبري. من الخيارات المتاحة أيضاً هو تخصيص صفحات عدّة تمس اهتمام القارئ والإبقاء على مواقعها الخبرية التقليدية مثلما قامت به Buzzfeed. فتتيح هذه المؤسسة متابعة الأخبار الرئيسية والقضايا السياسية والمجتمعية المهمة على صفحتها الرئيسية مع توفيرها للأخبار الترفيهية على مواقع وصفحات أخرى تابعة لها. في النهاية يجب على كل مؤسسة إعلامية وضع خطة تحريرية صارمة مع مراعاة ميول القارئ بطريقة تضمن استدامة مصدر دخلها وتراعي ثوابت الصحافة السليمة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.