جاءت نهاية الرئيس المصري محمد مرسي بهذه الطريقة المأساوية وهو في المعتقل وبطريقة غامضة لتكون أقرب للتصفية وإنهاء وجوده بطريقة لا إنسانية، وسواء كان الموت طبيعياً أو كنوع من الإهمال الصحي المتعمد أو كان تصفية لشخص الرئيس المصري المنتخب ديمقراطياً عقب أعظم ثورات مصر على الإطلاق فهل تكون هذه النهاية بداية لمرحلة جديدة ومخرجاً من أزمة الاخوان المستمرة منذ نشأتها في عشرينيات القرن الماضي؟
ربما تتحول مأساة تصفية الرئيس أو موته إلى مظلومية جديدة من مظلوميات الجماعة منذ وزارة النقراشي قبل ثورة 23 يوليو إلى اليوم، وربما تكون نهاية الرئيس بداية مرحلة جديدة ينتهي فيها العبث بين الجماعة والعسكر، فمصر لم تعد تحتمل المزيد من الكر والفر بين الطرفين. فكيف للإخوان أن يخرجوا من محنتهم بل كيف لمصر برمتها أن تخرج من هذه الدوامة التي تضرب جيش مصر وأمنها بقوى المجتمع فتقع الخسائر على كاهل الشعب المتجاوز تعداده المائة مليون نسمة؟
إذا أرادت حركة الإخوان المسلمين الخروج من مأزقها الديني والفلسفي والوجودي فعليها المضي خلف "فكرة الشهيد" مرسي شهيد الحرية والديمقراطية والشرعية وشهيد دولة العدالة والمواطنة الذي زُج به في السجن إبان انقلاب العسكر وعودة الدولة العميقة وأجهزة التسلط والقمع إلى سدة الحكم، فما تحمله رمزية الرئيس الشهيد من المفترض أن تكون نقطة تحول جذرية في بُنية الإخوان كجماعة وبموجبها يتحتم عليها مراجعة الفكرة والمنهج والسلوك والأدوات والوسائل المستخدمة منذ نشأتها في 1928 على يد الإمام حسن البناء.
لقد مرت الحركة بمنعطفات أهمها اغتيال مؤسسها حسن البنا في عام 1949، وإعدام سيد قطب وقيادات الحركة في عام 1966 وأحداث رابعة في 2013 وما تلاها من انقلاب وصلت ذروته إلى حد إنهاء حياة الرئيس مرسي 2019. ومن البنا إلى قطب دخلت الجماعة في مأزق ديني يتمثل في اعتبارها لنفسها حركة "مباركة" مُمثلة للإسلام والمسلمين تحت مسمى جماعة المسلمين أو جماعة من المسلمين متصدرة – فيما سُمي بحركات الإسلام السياسي – بقدرتها على كسب الشارع من خلال تنظيمها الهرمي المعقد.
وضع العسكر مصر في مأزق يفوق مأزق الإخوان بمراحل، لقد ضيعوا السيادة والسياسة والاقتصاد وأضاعوا الشعب كما لم يحدث من قبل |
ومما يُعاب عليها كونها حركة مجتمعية في زمن نشوء حركات التحرر، أنها ميزت نفسها بأنها حركة دينية وتناست أولوية واجبها الوطني المصري وذهبت تتوسع عربياً ودولياً بعد وقوعها في يد العسكر في عهد الرئيس جمال عبد الناصر الذي كان يخشى من وصاية الجماعة على الثورة إلى أن صار هو شخصياً الوصي عليها وعلى الثورة والشعب خلال سنوات حكمه.
وللجماعة مأزقها الفلسفي، فكل حركة هي بنت أرضها ووطنها وشعبها قبل أن تتمدد كحركة فكر عابرة للبلدان، لقد ذهبت الحركة منذ نشأتها إلى فكرة الشمولية للجماعة وهو ما أفقدها موضوعيتها منذ البداية، حتى لو كان الإسلام نظاماً شاملاً إلا أن الفرد المسلم في أحسن حالاته شخص متخصص، وكذلك الجماعة لا تستطيع أن تصل إلى شمول الإسلام ولو حققت بعضا من منهجيته كالعدالة فهذا يعد جهداً عظيماً لها مقارنة بغيرها من الحركات على مدار التاريخ. كما أن محاولة الإمام البنا أن يجعل منها دعوة كل الدعوات هو ما أبعد هذه الحركة عن واقعها، فلو أنه تبني مبادئ المواطنة لكانت الحركة قد أبت واستعصت على العزل فيما بعد عن الواقع المصري، لكنها كما يعرفها البنا بقوله: "نحن دعوة سلفية، وطريقه سنية، وحقيقة صوفية، وهيئة سياسية، وجماعة رياضية، وروابط علمية ثقافية، وشركة اقتصادية، وفكرة اجتماعية". وهذا الشمول قد شتت فكرتها وجعلها مثالية وغير واقعية.
كما أن المأزق الوجودي للجماعة مرتبط بالإجابة عن السؤال لماذا الإخوان؟ أو لماذا نشأت حركة الإخوان؟ فإذا كانت قد نشأت لأجل مصر ومستقبل مصر ومستقبل شعب مصر، ما كان ليكون هذا حالها اليوم، ولكنها نشأت لإحياء فكرة هلامية مطاطة كالخلافة، في ظروف مغايرة لظروف نشأة هذا النموذج القديم من نماذج الحكم، وفي واقع كانت فيه الدولة القومية المصرية قد نشأت في عهد محمد علي باشا الذي أعتلى عرش مصر في عام 1805. ولقد مثلت حركة الإخوان بذلك تراجعاً عن فكرة الدولة القومية، ولهذا تصادمت بالملكية ولنفس السبب تصادمت مع الجمهورية.
إن مرحلة ما بعد الرئيس الشهيد محمد مرسي ليست كما قبلها، مرسى اليوم يمثل لحركة الإخوان نموذجاً وطنياً مصرياً وبداية لمشروع نهضوي للأمة المصرية برمتها وليس للإخوان وحدهم، يعتمد هذا الطرح على أساس أنه أول رئيس مصري منتخب أتت به ثورة 25 يناير، وثورة يناير هي بداية التحول الكبير في مصر ضد الاستبداد.
إن الخروج بمصر من ورطتها الحالية يحتاج إلى ترسيخ مفاهيم المواطنة والنضال الشعبي، لقد وضع العسكر مصر في مأزق يفوق مأزق الإخوان بمراحل، لقد ضيعوا السيادة والسياسة والاقتصاد وأضاعوا الشعب كما لم يحدث من قبل، ومرحلة العسكر هذه لن تدوم، ولذا لابد من التهيئة لقيام حركة وطنية مصرية جامعة تكون "حركة الإخوان المصريين" لا الإخوان المسلمين جزءاً منها. و"الإخوان المصريين" تعني أن تتحول الجماعة والحركة من مجرد مندوب ديني للإسلام أو ممثل للإسلام إلى حضور فاعل وممثل لشعب مصر بكل أديانه وطوائفه، وهنا يأتي البُعد الوطني لأي حركة مجتمعية تنشد خدمة شعبها وإنهاء الصراعات المختلفة والتحول من مرحلة الصراع إلى مرحلة الشراكة الوطنية مع كل القوى والحركات المجتمعية بلا استثناء.
هذه النهاية للرئيس مرسي من المفترض أن يُرتكز عليها من قبل الجماعة ومن قبل شباب الجماعة للخروج من كل محنهم، فلديهم الآن فكر جديد مرتبط بمطالب المواطنة، وإمام جديد في السياسية |
بلد مثل مصر منوط بها قيادة التحول في المنطقة لما تمثله من ثقل حقيقي جغرافياً وديمغرافياً وتاريخياً، ولذا على حركاتها السياسية والاجتماعية التضحية لأجل مستقبلها مستقبل الدولة الوطنية المصرية، دولة الأمة المصرية، للخروج من المشاريع المحبطة لهم منذ عقود، لكي يكونوا رقماً صحيحاً في الأمة العربية والأمة الإسلامية والأسرة الدولية عليهم أن يبدأوا من الأمة المصرية ومن لم يُفد بلده وشعبه لن يفيد الآخرين.
إن إنهاء حالة الصراع المجتمعي في مصر ستمثل بداية الطريق لعودة مصر القوية ولا قوة لأمة بدون إخراج المواطن من حالة المواطن التائه الغلبان إلى حالة المواطن العامل والمنتج، فالمواطن هو أساس الدولة ونواتها الأولى، وكانت فكرة حسن البنا صحيحة في بناء الحركة: "الفرد والأسرة والمجتمع والدولة"، لكنها انحرفت فيما بعد، وتحولت من حركة عاملة إلى "حركة دينية مباركة" لا ينقصها سوى البخور في سوق المجاذيب.
إن وصول رئيس منتخب من الإخوان إلى قمة السلطة في مصر يعد أهم تحول فكري وسياسي واقعي لحركة الإخوان، وبهذا تنتقل الإمامة من البنا المؤسس إلى مرسي الشهيد القائد، كما أن البرنامج السياسي لمرسي وحزبه، ومنهجه السلمي والتصالحي مع المجتمع هو دليل المواطنة ودليل دولة المواطنة المنشودة، لدى الإخوان اليوم نموذج ديمقراطي، نموذج مواطنة، نموذج كرامة يحتذى به وعليه يجب التعويل والبناء ويمثل المخرج الحقيقي لحركة لم يكن لها نموذجاً واقعياً بكل هذا الوضوح قبل مرسي، فإذا تركته وعادت للأحجيات والخلافة والتنظيم الدولي فإنها ستُنهي وجودها بتركها أفضل نموذج قدمته لمصر بعد ثورة 25 يناير العظيمة.
إن هذه النهاية للرئيس مرسي من المفترض أن يُرتكز عليها من قبل الجماعة ومن قبل شباب الجماعة للخروج من كل محنهم، فلديهم الآن فكر جديد مرتبط بمطالب المواطنة، وإمام جديد في السياسية، وكل هذا سيساعدهم في التخلص من الفكر القديم والإمام القديم، سيتوجب عليهم فصل الدعوة عن العمل السياسي واسدال الستار على تاريخ من المحن المتلاحقة والتحول من حركة دينية تنشد استعادة الخلافة إلى حركة مجتمعية تنشد الحرية والعدالة والمساواة والمواطنة لشعب مصر. إن وفاة مرسي أو تصفيته يجب أن تتحول إلى مصالحة وطنية بين أبناء الشعب المصري، مرسي يجب أن يتحول إلى قائد مسيرة الحرية لشعب مصر، إن مرسي وفكره وتضحيته هو المخرج من ضلال الاستبداد السياسي المصري.
هناك من يتسلى في الشرق الأوسط بصراع المتدينين والعسكر، ولم يكتفي بذلك بل حرك البلطجية ضد المتدينين وحرك الإيديولوجيات برمتها ضد بعضها، وصنع إسلاميين ضد الإسلاميين، إن إخراج مصر من هذه اللعبة القذرة سيحفظ مكوناتها المجتمعية وجيشها وأمنها، مصر تنزف منذ ستين سنة وتحتاج إلى الذهاب بعيداً عن هذه الحالة التي تستهلكها على الدوام، فهل تعي حركات المجتمع والعسكر خطورة الوضع وأن مصر الكبيرة صارت مجرد تابعة للأوغاد الصغار في المنطقة؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.