شعار قسم مدونات

كيف أصبح التاكسي وسيلة لنقل الخيال السينمائي؟

blogs تاكسي

 "سائق التاكسي يتلقى أوامر الركاب ليوصلهم حيثما يريدون، وليست عنده فرصة اختيار.. هنا (أي السينما) سائق التاكسي يقرر أن يقود نفسه بنفسه"

مارتن سكورسيزي

  

يقول المخرج الإيراني عباس كيارستمي بأن سبب طغيان الحوارات داخل السيارة في أفلامه راجع لكون مقاعد السيارة توفر لك فرصة للتركيز والاتصال بالآخر، حيث تجلسان جنبا إلى جنب دون أن يضطر أحدكما إلى النظر في عيني الاخر وفي هذه الحالة تتواصلان على نحو أفضل، والتاكسي كمكان مغلق ذو حيز محدود، له القدرة على تلخيص كل أطياف الحياة عبر ركابه المختلفين، بل ينجح في الكثير من المرات في أن يصبح بذاته حياة متكاملة، صاخبة حينا وخامدة حينا آخر.

 

نجح التاكسي في لعب دور مهم في أفلام أيقونية واستطاع المخرجون تلخيص كل معاني الحياة في مقاعدها الخلفية، حياة فيها كل معاني الفرح والحزن والحب والفقد، تماما كما يليق بأي حياة طويلة، ولعل هذه الحياة التي تختتم في نهاية الرحلة بين غرباء يلتقون مرة واحدة للأبد ضمن حيز مكاني وزماني صغير تبث بينهم اطمئنانا فريدا بكون أسرارهم محفوظة للأبد، وإذا توصل ماكبث بطل مسرحية شكسبير لكون الحياة ظلا عابرا في إشارة لقصر العمر، فإن الحياة القصيرة في التاكسي تبقى أقل من ظل عابر يصلح ليُجسد في السينما.

 

سائق التاكسي.. الرجل الأكثر وحدة

عُرف عن المخرج الأمريكي مارتن سكورسيزي أنه كان عاشقا لرواية الإغواء الأخير للمسيح لنيكوس كزانتزاكيس، وبالرغم من أنه أخرجها بشكل صريح في فيلم يحمل نفس العنوان، إلا أن ثيمة التطهير والخلاص طبعت بشكل خفي أفلام أخرى له، ظهر ذلك في فيلمه الأيقوني سائق التاكسي بطولة روبير دينيرو الذي يسعى لتخليص نيويورك من الرذيلة وهو الغارق فيها.

   

  

يصور لنا سكورسيزي بطله يجوب شوارع نيويورك في التاكسي، بعينيه المعذبتين بالأرق وحقده على مدينته وخلفه موسيقى برنارد هيومن، وبالرغم من أن حياة سائقي التاكسي قد جُسدت في عدة أعمال إلا أننا حين نتحدث عن أشهر سائق تاكسي في السينما فبسرعة نستحضر ترافيس بيكل المحارب السابق الذي يهيم كطائر مجروح في ليل نيويورك، إنه غير مستقر نفسيا بالطبع، إضافة لإدمانه المستمر للجنس وارتياد صالات عرض الأفلام الإباحية.

 

سائق التاكسي يستقر في حضيض مدينة نيويورك ويحتك مع عوالمها السفلية ونلقي معه نظرة على الشعور بالعزلة والاغتراب في المجتمع المتمدن، عبر سمفونية معقدة كبطل الفيلم: همسات الناس، الغبار المتصاعد، اللون الأحمر-لون الرغبة-، ضجيج حركة المرور ودوي صفارات الإنذار. وصف الشاعر الإسباني لوركا احاسيسه قائلا: "أعتقد أن كل ما امتلك أصبح شاحبا بجانب هذه الأشياء السمفونية كالضجيج والتعقيد بنيويورك".

 

وبينما يسعى ترافيس لتنقية المدينة من عهرها، يبدو أيضا أنه غارق في الخطايا والإدمان، وككاهن فقد البوصلة لكنيسته تتشتت الأفكار داخل عقل ترافيس، وتظهر حبكة سكورسيزي الذي يرى في المسيح إنسانا وليس كيانا روحيا لذلك يجعله في أفلامه بشكل خفي يعاني من كل ما يعاني منه البشر من الشكوك والغضب والخوف.

 

ينتهي الفيلم بنفس لقطات البداية، بنفس النظرة والألوان وبانعكاس المدينة في المرآة، وينتهي عالم سائق التاكسي في ذلك الحيز المكاني ذو العجلات والذي يُلخص تناقضات البشر ونيويورك. وبعد سنين من عرض الفيلم، يبقى فيلم سائق التاكسي مرجعية لدراسة التغيرات النفسية لشخص نصادفه كل يوم ونثق في الركوب معه دون الاعتقاد للحظة قصيرة أن السائق قد يكون ترافيس آخر لم يُكتشف بعد.

  

تاكسي طهران.. عن مجتمع إيراني مضطهد

"لا يمكنك أن تصنع فيلما إذا بقيت في البيت"

المخرج الإيراني جعفر بناهي

  

عندما فرضت السلطات الإيرانية الإقامة الاجبارية لعشرين سنة على المخرج جعفر بناهي، لم يستسلم للأمر الواقع، فجعفر الذي قال بعد الافراج عنه: "أريدكم أن تضعوا أنفسكم مكان صانع أفلام لا يجيد سوى صناعتها، ولا يحب سوى تلك الصناعة، كم 20عاما لدي لأضيعها؟ إنني لا أستطيع أن أبقى خاملا وأهدر حياتي، هذا ليس افراجا، فقط خرجت من سجن صغير لأحبس في آخر"، تحدى كل القيود المفروضة عليه وتحايل على المنع عندما قرر ذات يوم أن يمتهن سياقة التاكسي مع كاميرا صغيرة معلقة في الزجاج الأمامي ليرصد تقلبات وصراعات المجتمع الإيراني بكل صدق وعفوية على لسان زبائنه.

   

  

في نهاية الفيلم لا يظهر أي جنريك كنوع من خداع السلطة التي لا يمكن أن تزعم ملكية جعفر الإخراجية للفيلم، ففي التاكسي الكل كان مخرجا، تارة نرى الكاميرا في يد تاجر وتارة تحركها ابنة أخت المخرج، كما تتعدد أنواع الكاميرات من عدسات إلى كاميرات ذات جودة عالية، وتتشارك في الحيز المكاني الضيق للتاكسي الذي يتحول في الفيلم لمسرح يتبادل فيه الركاب المنتمون لمختلف الاطياف الايرانية افكارهم في جو ديمقراطي. فاز جعفر عن فيلمه تاكسي بجائزة الدب الذهبي لمهرجان برلين السينمائي سنة 2015 دون ان يستطيع السفر لتسلم الجائزة بسبب ظروف المنع المفروضة عليه، ويقول عليه دارين ارنوفسكي: "كان بإمكان الرجل أن ينكسر ويستسلم لكن بدلا من ذلك كتب رسالة حب إلى السينما، إن فيلمه الجديد ليس إلا تعبيرا عن رجل يعشق فنه"

 

وبعيدا عن التتويج والمنع، ففيلم تاكسي عمل سينمائي يحتفي بالواقعية واهميتها في كسر قيود الرقابة، حيت تدور كل اللقطات داخل التاكسي المغلق كإشارة لانغلاق المجتمع الإيراني، كما يسوق جعفر التاكسي دون رخصة سياقة تاكسي كإسقاط ساخر لكونه يصور فيلما دون رخصة تصوير، اختيار التاكسي كان موفقا لكونها وسيلة نقل محورية تضمن للمخرج ظهور جميع الطوائف المشكلة للمجتمع، كما تظهر ابنة أخ المخرج الصغيرة التي تنهمك في تصوير فيلمها القصير كواجب مدرسي، والذي يجب أن يراعي الآداب العامة، فتتشكل داخل الفيلم عدسة أخرى لترصد قصة أخرى عن السينما الإيرانية المختنقة بالرقابة.

  

دعونا أيضا نستحضر أن جعفر بناهي تلميذ للمخرج الإيراني عباس كيارستمي رائد التصوير في السيارات، لذلك يظهر التأثر الكبير لجعفر بفلسفة الحوار داخل السيارة.

 

يا تاكسي الغرام.. يا مقرب البعيد

في خمسينيات القرن الماضي، قدم لنا المخرج المصري مصطفى نيازي فيلمه تاكسي الغرام ببطولة المطرب عبد العزيز محمود والمطربة هدى سلطان، الفيلم عبارة عن مأساة سائق التاكسي حين يقع في الحب ومشواره من أجل الظفر بقلب حبيبته، يتحول سائق التاكسي بعد الارتباط لسائق خاص بأسرة العروسة، فيقوم بتوصيل العروسة يوميا متحملا الزحام والمسافة في سبيل الحب، ليس ذلك فحسب بل عليه ألا يتوقف عن الغزل وكلمات العشق.

 

ويقول الناقد السينمائي محمود قاسم: "مهنة سائق التاكسي كغيرها من المهن التي ظهرت في القرن العشرين تعاملت معها السينما إما بشكل هامشي أو كوميدي وفي بعض الأحيان كشخصية محورية كان أغلبها لشاب كادح ينتمي لأسرة فقيرة وبسيطة".

 

حين تجلس بجانب سائق التاكسي، تضطر لسماع قصصه ومعاناته وتحليله لحال البلاد والسياسة، حسب مزاجه وحسب طول المسير، غير أنك مستقبلا حين تركب مع سائق تاكسي، حاول أن تتخيل الفضاء الصغير كساحة تصوير لفيلم لم يُكتب بعد واسرح بخيالك لعلك تخرج بفكرة عن سيناريو لفيلم تكون سيارة التاكسي بطلا محوريا فيه، وتذكر أن كاتب سيناريو فيلم سائق التاكسي أبدع في الكتابة حين ربط حياته البئيسة بسائقي التاكسي: "كنت أشبه سائق تاكسي يطوف ليل المدينة في هذا التابوت المعدني، محاط دائما بالناس لكنه وحيد تماما".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.