طوفان من النظريات والمفاهيم بدأ بالفيضان في أواسط القرن الماضي في كل أنحاء العالم للاهتمام بالتربية والتعليم والطفل ونموه العقلي والنفسي والتربوي قبل الجسماني وزادت حدته في العقدين الأخيرين من القرن العشرين وبداية القرن الحالي، ووصل الحال في بعض النظريات التربوية إلى التضارب والتصادم. وقد كنا في فترات طويلة من التحليل والتنظير نتجه بأنظارنا وجهودنا إلى الآباء والأمهات ثم إلى المعلمين والمدرسين اعتقادًا من الجميع أن بسلامة البالغين سيسلم الأطفال وينشؤوا نشأة تربوية سوية تجمع لهم فيها بين الأمن النفسي والتربية الإيجابية والتعليم المناسب في بيئة معتدلة أو تملك الحد الأدنى من متطلبات تنشئة طفل. وكذلك كثر الحديث على أن الطفل يولد عبقريًا بطبعه ونسبة ذكائه في معدلاتها العالية والمرتفعة ويفسده في نظرنا النظام التعليمي والبيئة سواء في البيت أو المسجد أو الكنيسة أو المدرسة أو دور اللعب والرياضة.
لكن الغريب أن غالب قادة الثقافة والعلم في العالم من خريجي هذه المؤسسات ونشؤوا في هذه البيئات وتعلموا وتطوروا وبدأوا في التنظير دون أن يفسدهم هذا النظام أو تلك البيئة، فأصبحنا في حيرة هل الطفل عبقري بطبعه ونحن نخربه بطريقة أو بأخرى أم هي قدرات ومقومات ومهارات النجاح التي يحققها طفل ولا يحققها آخر؟ هل نوجه كل الجهود للطفل أم لمن يتعامل مع الطفل؟ وكلاهما صواب. ومن خلال تجربتي الشخصية في مقار ومؤسسات العلاج النفسي للأطفال والبالغين أن الأزمة الحقيقية في البالغين سواء من المتحكمين في مناخ الحياة بوجه عام أو أصحاب التعامل المباشر مع الطفل في البيت أو المدرسة أو النادي أو الجامع فلنتصور هذه العبارات من طفل أبي لا يحبني، أمي لا تريدني. يكبر الصغير ويموت الكبير وفي قلبه شيء من شعور سخيف أنه لم يكن مقبولًا.
الهزات النفسية التي تصيب البشر فتجعلهم عرضة للاكتئاب والاضطراب النفسي يعود سببها الأكبر في غالبها إلى مرحلة الطفولة. بين دلال الطفل وتعنيفه والقسوة عليه تقبع كل الاضطرابات النفسية |
يبدأ في الصغر وتخرج آثاره في الكبر في الدراسة في العمل بل وفي العبادة وبين الزوجين. أنت لا تحبني أنت لا ترغبين فيّ إنها فكرة مرعبة أن يشعر الطفل بهذه المشاعر ثم يكبر وهو يحملها فما هي ثماره في حياته وما هي الإنجازات التي يمكن أن يحققها على المستوى الشخصي، والويل كل الويل لشعب يحكمه شخص أصيب بضعف الإثراء النفسي والعاطفي وهو صغير، وإذا به حين يكبر يقول كان الأطفال يضربونني وأنا صغير وكنت أتوعدهم حين أكبر سأنتقم. ثم بدأت أنا وأمثالي ممن يؤمن بفكرة أن المسؤولية الكبرى على البالغين ويجب الاهتمام بهم حتى يتمكنوا من التعامل مع الطفل بالتأليف والكتابة والتنظير ودعوة الناس إلى المحاضرات والبرامج النافعة والهادفة والتي توجه الوالدين والمعلمين إلى الوسائل الصحيحة والطرق الإيجابية في تربية الأطفال والتعامل معهم وإذا بالنتائج هزيلة بل مؤلمة للغاية والأسباب كثيرة.
فقد تقبل الأم على التعلم وينفر الأب منه وقد ينفر كلاهما وقد يقبل كلاهما لكن لا يملكان المقومات اللازمة لا للتربية ولا حتى لسعادتهما الخاصة فضلًا عن مشاكل بيئة التعلم والمستوى المادي والاستقرار السياسي والخطاب الديني المعتدل الخ. وثمار ونتائج التربية خلال العقدين الأخيرين تنذر بالخطر وتنادي بل وتصارخ بضرورة إيجاد طريق مختصرة أو تجارب فعالة لتصحيح الأوضاع وتجنب انهيار منظومة التربية الأخلاقية والعلمية وبالتالي إدراك مستقبل الشعوب والأمم في ظل نتاج قابل للانفجار في الاتجاه السلبي في أي لحظة والمؤشرات واضحة للجميع لا يتعامى عنها إلا صاحب مصلحة.
فعادت الحيرة من جديد فما العمل إن كان خط التوجيه للبالغين لم يؤت ثماره إلا بنسبة ضئيلة لا تستطيع الأمة النهوض بها فكان لزامًا أن نعود من جديد للاهتمام بالطفل حيث عليه المعول والتركيز في ظل معوقات كبيرة فبعضنا يبني وغيرنا يهدم بل وبعضنا يهدم كذلك وبقي نوع الاهتمام وطبيعة الرعاية التي ينبغي أن تقدم للطفل في ظل ليس فقط الظروف الحالية بل وفي ظل جمود المجتمعات وانسحابها من مسؤولية الأطفال الحياتية والتنموية. لا يخلو خطاب معلم أو وزير تعليم أو صحة او مدير مدرسة أو مسؤول روضة من عبارات من نوع ينبغي لنا الاهتمام بالأطفال لأنهم عماد المستقبل وقادة الغد.
وهي عبارات حق وصدق وعدل ووعي لكن عند ترجمتها على أرض الواقع فتجدها مهمشة هزيلة النتائج منفصلة عن الواقع لا تراعي فروقًا فردية ولا سمات شخصية ولا مناهج مناسبة ولا بيئة مهيئة فما هي نواع الرعاية التي ينبغي أن يحصل عليه الطفل غير رعايته صحيًا وتعليميًا وتربويًا. إن الصلابة النفسية والاتزان الانفعالي لهما أهم ما ينبغي أن يضعه نصب عينيه كل مهتم بالطفولة. إن الهزات النفسية التي تصيب البشر فتجعلهم عرضة للاكتئاب والاضطراب النفسي يعود سببها الأكبر في غالبها إلى مرحلة الطفولة. بين دلال الطفل وتعنيفه والقسوة عليه تقبع كل الاضطرابات النفسية التي أنتجت جيلًا بل أجيالًا تجعل من مباراة كرة القدم بين فريقين من بلدين مختلفين أو حتى من نفس البلد علامة على الوطنية والولاء.
تلكم الاضطرابات التي أزكت روح العنصرية بين أبناء البلد الواحد وأخرجت ركامًا من السخرية والاستهزاء من قبيلة أو مدينة أو محافظة أو ولاية أو من شعب بأكمله. تلكم الاضطرابات التي ولدت كمًا مهولًا من العنف والقسوة والعدائية بين أفراد الأسرة الواحدة فضلًا عن المجتمعات المختلفة. تلكم الاضطرابات الت جعلت من بعض الرجال أسدًا على النساء والأطفال ونعامة على العدو أو الخصم. تلكم الاضطرابات التي جعلت الفزع والشك والحيرة والإباحية والإلحاد حالة مقلقة في أجيالنا في هذا لعصر. لابد لهذا الانهيار أن يتوقف ونعيد تشغيل البوصلة من جديد بهدف زرع الصلابة النفسية فالأطفال وتنشئتهم على الثبات الانفعالي، ثقة بالنفس دون كبر أو استعلاء، حزن دون انهيار عصبي أو اضطراب ذهاني، فرح دون سخرية وشماتة، حياة ملؤها الإنجازات وأعظم إنجازاتها الفرح بإنجازات الآخرين ودعمهم والثناء عليهم، ثبات يؤدي إلى عدم الصدام لمجرد الاختلاف في رأي أو حزب او اتجاه أو فكر. إنها المعادلة الأصعب في مشروع تبوء بلادنا منصبًا يليق بها بين العالم. ابدؤوا بالأطفال وانتهوا بالأطفال لا تخافوا على التعليم لا ترتعبوا من الثانوية العامة أو البكالوريا فليس رسوب أحد الأبناء في مادة أو اثنتين علامة على فشله، الجميع سيقرأ ويكتب الجميع سيتعلم والجميع سيتخرج لكن ليس الجميع من سيتعلم الحياة. علموا أولادكم الحياة وهم سيتعلمون العلم وحدهم.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.