"افتح دكاناً وموِّل حزبك، افتح دكاناً وسقِّط خصمك"، هذا ما يدور في الأروقة السياسية وبين ما يسمى اليوم زعماء العملية السياسية حول أسباب إنشاء مؤسسات إعلامية وقنوات فضائية من قبل أحزاب وشخصيات سياسية ومتنفذين والذين يحصلون على تمويل خارجي من خلال هذه المشاريع التي صارت توصف بالدكاكين.
الدكان هو محل البيع والشراء، وهنا المقصود به للأسف المؤسسة الإعلامية إن صحَّت تسميتها بالمؤسسة، حيث يوجد في العراق عشرات القنوات الفضائية والأرضية والإذاعات والصحف الإلكترونية والورقية والمجلات معظمها تتبع لأحزاب وشخصيات سياسية وفصائل مسلحة باستثناء شبكة الإعلام الحكومي، وبتجربة استمرت منذ عام 2006 حتى 2019 تنقلت خلالها بين عدد لا بأس به من المؤسسات الإعلامية العراقية أستطيع القول إنه لم يعد لدي أدنى شك باستحالة وجود إعلام مهني هادف في ظل الوضع الراهن، كما تيقنت أن حقوق العاملين في هذا المجال ضائعة وضائع معها جهدهم وساعات عملهم الطويلة دون أن يحققوا خلالها أي نتيجة مرجوَّة، وبدرجة الضياع ذاتها التي خسرنا فيها السلطة الرابعة وتأثيرها.
الدكاكين الإعلامية تغير كوادرها بما يتناسب وتوجهاتها المرحلية، وبما تقتضيه مصلحة أصحابها، وذلك لعدم وضوح خطها التحريري ولفقدانها للإدارة التي بإمكانها السيطرة على كل ما ينتج ويكتب ويقال |
أما الكارثة الكبرى فهي التلاعب بالرأي العام والجمهور بلا أي سياق مهني أو أخلاقي، وبحسب ما تشتهيه الجهة الممولة "التي تدفع مرتبات العاملين" أما هؤلاء العاملون فهم بلا قانون عمل وبلا ضمانات وبلا حتى تعامل يليق بهم، ناهيك عن إدخال كلِّ من هبَّ ودبَّ إلى مهنة المتاعب، وأما عن سبب سوء الإدارة فعندما تعرف أن المؤسسة الإعلامية بيد من لا علاقةَ له بالإعلام لا من قريب ولا من بعيد، وأن من يترأسون العمل هم أصدقاء المدير ومعارفه ومن يخصونه، أما أولئك المميزون في العمل من ناحية الراحة والمرتبات الجيدة فهم أعضاء الحزب ومن تم توظيفهم بواسطة الإدارة دون الاكتراث لمستواهم أو قيمتهم الفنية، وعندما تعرف كلَّ ذلك يبطل عندك العجب.
المؤسسات أو الدكاكين أو أي تسمية أخرى سمُّوها ما شِئتم، لها أسلوب خاص في لبس الثوب الجديد المناسب وطقس الجهة المالكة التي غالباً ما تكون جهة سياسية، فعندما تقتضي الحاجة تكون منبراً معارضاً تلعن وتسب وتشتم وتنتقد وتبكي على الشعب أكثر من الشعب نفسه لدرجة أن شعار القناة التلفزيونية "اللوغو" تجده مطبوعاً على شاشات معظم العائلات المتضررة مما يحدث في البلاد لدرجة حبهم مشاهدةَ تلك القناة التي تمثل لسان حالهم، ولا تستغرب إذا وجدت القناة ذاتها بالشعار ذاته تبرر ما تقوم به الجهات ذاتها إذا تغيرت التحالفات السياسية بين ليلة وضحاها، كما لا تستغرب إذا تحولت وسيلة الإعلام نفسها إلى مروج وداعم لدولة كانت بالأمس القريب العدوَّ الأوحد وبشكل مفضوح وبلا خجل، وخلال ذلك يمكنك السؤال: هل بقي لشرف المهنة شيء؟
ولعل سائلاً يسأل: لماذا سميت بالدكاكين؟ الجوانب لأنها لا توحي للمؤسسات بشيء، لا خطة عمل واضحة ولا تملك شخصية المؤسسة الإعلامية، وليست ثابتة التوجه وغير معروف وقت إغلاقها بشكل نهائي لأنه مرتبط بالدعم الخارجي، وليس لديها خط تحريري واضح ولا نهج مفهوم المعالم، ولأن الهدف من افتتاحها ربحي فقط مثل أي دكان تباع به البضائع.
الدكاكين الإعلامية تغير كوادرها بما يتناسب وتوجهاتها المرحلية، وبما تقتضيه مصلحة أصحابها، وذلك لعدم وضوح خطها التحريري ولفقدانها للإدارة التي بإمكانها السيطرة على كل ما ينتج ويكتب ويقال في القناة أو الإذاعة أو الصحيفة، وضعف الإدارة فنياً ومهنياً يجعلها تخافُ من العاملين معها وهنا الغرابة! حيث يُفترَض أن رؤساء العمل مسؤولون عن متابعة كل ما ينتجه الموظفون وما يكتبونه، ولهذا السبب يجد المتابع لوسائل الإعلام العراقية تغيّر الأسماء والوجوه مع تغير السياسة التحريرية والخطاب العام بالتزامن مع المتغيرات السياسية في البلاد.
الأموال التي تُدفع من قبل دول وجهات خارجية لتمويل بعض المؤسسات الإعلامية لا يُصرَف ربعُها ويذهب الباقي إلى جيوب المالكين، لذلك تجدها مؤسسات فقيرة المحتوى، وحتى تلك الممولة من أحزاب تسيطر على وزارات وهيئات تتسلم دعماً خارجياً وعلى الرغم من ذلك فإنها مغارة فساد كبيرة تبتلع الأموال ولا يخرج منها إلا الشيء القليل، وهو عبارة عن مرتبات بسبب تأخر الحوالة عادة يتأخر تسليمُها إلى العاملين الذين لا يحصلون على أعشار ما يتقاضاه أقرانهم في المهنة، ولكن بدول أخرى تحرص على خلق إعلام مؤثر.
وحتى أخلي مسؤوليتي أمام الله والجميع أقول: لا تصدقوا ما تتابعونه في نشرات الأخبار والبرامج، بل لا تصدقوا معظمَ ما تسمعونه وتقرؤونه وتشاهدونه، لا تصدقوا لأنَّ كلَّ ذلك مدفوع الثمن، واحذروا من الهيمنة على الإعلام الحديث "مواقع التواصل الاجتماعي" حتى هذه لم تَسلمْ وتم بيعها، وخصوصاً أن معظم الشخصيات السياسية والأحزاب والأطراف المتنفذة أنشأوا جيوشاً إلكترونية وصفحات خاصة بهم، إضافة إلى كتاب وصحفيين ومدونين بأسماء وهمية وحقيقية يتبعون لهم ويروِّجون ما يضلل المتلقي، فما سلم منهم حتى الفضاءُ الافتراضي، كل ذلك حتى يؤخروا صحوة الشعوب المظلومة المضطهدة، وحتى تبقى الأموال والمناصب والامتيازات حكراً عليهم وعلى أحزابهم وعائلاتهم ومن خلفهم الدول الداعمة لهم، هم يقاتلون لكسب كل قلم وكل فسحة وكل صوت وكل ما يمكن أن يتستر على ما يفعلونه ببلادهم من بيع وشراء للذمم والأخلاق قبل أن يبيعوا الأرواح والأرض، فسلام لكل من صان المهنة وشرفها وحفظ الأمانة وحمل راية الحق بصوته وقلمه وبكل ما استطاع، والويل والثبور لكل من باع الغاليَ بثمنٍ رخيص.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.