شعار قسم مدونات

يا أهل أندلسٍ شدّوا رواحلكم..! يوم سقطت طليطلة

blogs الأندلس

بعدما تضعضع حال المسلمين في الأندلس وانقسمت البلاد وتفككت وحدتها واستحكمت الفوضى واشتد الصراع بين ملوك الطوائف الذين نصبوا أنفسهم خلفاء، وصارت أرض الأندلس ممزقة إلى 22 دويلة أبرز هؤلاء بني عباد في إشبيلية وبني ذي النون في طليطلة وبني جهور في قرطبة وبني حمود في غرناطة وملقة والجزيرة الخضراء وبني صمادح بالمرية وبني الافطس في بطليوس وبني هود بسرقسطة وبني عامر بشرق الأندلس، وكانت كل دويلة ترزح تحت وطأة التشتت والخنوع ودفع الجزية للمالك النصرانية وكل واحد من هؤلاء الذين حكموا هذه الدويلات الصغيرة قد أعلن أنه أمير المؤمنين وانتحل لقب براق من ألقاب الخلفاء، وصار كل واحد منهم يستعين على خصومه من المسلمين بنصارى الشمال عوض الوقوف في خندق واحد لمواجهة العدو وفي خضم هذا المناخ المكتنز بالهوان والتفرق كانت طليطلة حاضرة الأندلس طريحة الفراش تلفظ أنفاسها الأخيرة بين أحضان المسلمين.

طليطلة حصن الإسلام في الأندلس

الثغر الأوسط لقب أطلق على طليطلة وذلك لموقعها الجغرافي المتميز ولوجودها بجوار حدود الممالك النصرانية، طليطلة تلك الحاضرة الشامخة والحصن العتيد الأمر الذي جعلها تتبوأ بعدا مهماً، فهي عاصمة القوط قبل الفتح الإسلامي على يد طارق بن زياد الذي فتحها ومعه ستة آلاف مقاتل، وقد اكتست طليطلة مكانة عسكرية مهمة في العهد الإسلامي فهي القاعدة التي كان ينطلق منها الفاتحين المتجهين لفتح البلدان المجاورة، وكون طليطلة حصن منيع فذلك لوجود الجبال من كل نواحيها إلا جنوبها، بالإضافة إلى أنها كانت تشكل الحاجز الأول أمام المد الإسباني وذلك لمتاخمة حدودها مع الممالك النصرانية.

بعد أن أمن الفونسو ظهره من المسلمين اتجه لحصار طليطلة فأخذ أهلها على حين غرة وثبت أوتاده على جنباتها، وطليطلة ذات حصون قوية وجبال عالية لا يمكن دخولها إلا بحصار خانق، وضرب بذلك الفونسو حصار استمر نحو تسعة أشهر

لذا بقيت المطمع الأول الذي يداعب أجفان النصارى، بعد سقوط حكم بني أمية في الأندلس خضعت طليطلة لبني ذي النون قرابة 33 عاماً الذين انشغلوا بمحاربة بني جلدتهم من المسلمين وتركوا ظهرهم عاريا للمالك النصرانية، والأمر الذي زاد من صب الوقود في النار أنهم كانوا يستعينون بملوك قشتالة لضرب منافسيهم من ملوك الطوائف، وإبان حكم بني ذي النون تعرضت طليطلة لهجمات كثيرة من النصارى في عهد فرناندو الأول بالإضافة إلى طعنات وغارات ملوك الطوائف علاوة على الجزية التي أثقلت كاهل بني ذي النون، بعد وفاة المأمون بن ذي النون خلفه على عرش طليطلة ابنه يحيى بن ذي النون الذي لقب نفسه بالقادر بالله وكان ذو بطانة فاسدة وشابا مترفا ضعيف الرأي قليل الخبرة.

سقوط طليطلة (بين ذكاء الفونسو وسذاجة يحيى بن ذي النون)

في الضفة الأخرى نشب صراع بين ملوك النصارى بسبب خلاف على بعض الأراضي، دفع بالفونسو إلى الهروب والارتماء في حضن طليطلة والتي كان حاكمها آنذاك القادر بالله بن المأمون الذي احسن ضيافته وأكرم وفادته قرابة تسعة أشهر، والفونسو ماكث في طليطلة يتربص بجنباتها ويأكل من خيراتها ويصاحب أهلها، والفتى المترف والقائد الذليل يصول ويجول به في كل الحصون ويطلعه على مواطن ونقط قوة المدينة حتى عرف الرجل كل خبايا طليطلة كأنه ابن الدار الذي نشأ وترعرع بين أحضانها، متناسياً ما تكبده من وراء أبيه فرناندو الذي أثقل كاهله بالجزية وما تجرعه منه من غارات وهجمات لتركيع المدينة.

بعد مرور شهور على مكوثه في منفاه بطليطلة عاد الفونسو ملكاً على قشتالة وما هي إلا أيام حتى بدأ الملك الجديد يتغزل بطليطلة وأخذ يعد العدة لإسقاطها، في كنف هذا الجو المتشنج قامت مجموعة من الغارات قادها بعض ملوك الطوائف ناهيك عن الثورات الداخلية التي جاءت كسخط على سياسية يحيى بن ذي النون المتهورة، ومن أجل احتواء اللغط وتسكين أهل طليطلة هرع القادر بالله إلى الفونسو ملك قشتالة يذكره بسالف الود وفضله عليه ويطلب مساعدته، لكن الفونسو اشترط مقابل حمايته دفع المزيد من المال والتنازل عن بعض الحصون، وقد استمر الفونسو في حلب صاحب طليطلة فلما جف ضرعه بدأ الفونسو يعد العدة لاستئصال شأفة الإسلام من ثرى طليطلة، والأمر الذي يحزن النفس ويدمي الفؤاد هو أن سقوط طليطلة تم بواسطة تواطؤ بعض ملوك الطوائف مع الفونسو وتشير بعض الروايات أن المعتمد بن عباد صاحب إشبيلية خاف على ملكه وخشى أن يكون ضحية للغزو القشتالي فأرسل إلى الفونسو يتودد إليه ويتعهد بدفع المزيد من الجزية مقابل تركه وألا يعترض سبيله في الاستيلاء على طليطلة.

بعد أن أمن الفونسو ظهره من المسلمين اتجه لحصار طليطلة فأخذ أهلها على حين غرة وثبت أوتاده على جنباتها، وطليطلة ذات حصون قوية وجبال عالية لا يمكن دخولها إلا بحصار خانق، وضرب بذلك الفونسو حصار استمر نحو تسعة أشهر، وهكذا تركت طليطلة وحيدة طريحة تستنشق نسيم الخيانة والهوان وأهلها مستميتين عسى أن يُفك عليهم الحصار أو تأتي جحافل من جيوش المسلمين لنصرتهم حتى ضاق الناس ذرعاً واستنزِفت الموارد وشح الماء واستحكم اليأس والضعف أنفس الناس ودق الحزن أوتاده في نفوسهم وبذلك أصبح سقوط طليطلة أمر طبيعي ومحتوم لا مناص منه وأصبحت طليطلة كوردة تذبل وأعين المسلمين تتساءل هل ينبض نبع عزة الإسلام في نفوس ملوك الطوائف الظمأى التي كبلها الخنوع والانبطاح، وبعد هذا الجو المليء باليأس اضطر القادر بالله إلى تسليم المدينة لقشتالة وما إن أخذت شمس بداية صفر من سنة 478هـ الموافق لـ مايو 1085م تلم وشاحها حتى أصبحت طليطلة أسيرة لألفونسو وخيم عليها الليل وهي مرتدة في قبضة النصارى ،وخرج يحيى خائبا يمشي في ذلة بعد النكسة التي تجرعها عاضاً على أصابع الندم ونام الفونسو ليلتها ليلة العريس، وبسقوط طليطلة ذهبت ريح الأندلس وانفرط عقدها يقول ابن عسال راثيا طليطلة وهو أحد المعاصرين لسقوطها:

يا أهل أندلسٍ شدّوا رواحلكمُ فما المقامُ بها إلا من الغلطِ
الثَّـوْبُ يُنْسَـلُ مـِنْ أَطْرَافِهِ وَأَرَى ثَوْبَ الْجَزِيرَةِ مَنْسُولاً مِنَ الْوَسَطِ
مَنْ جَاوَرَ الشَّرَّ لاَ يَأْمَنْ بَوَائِقَهُ كَيْفَ الْحَيَـاةُ مَـعَ الْحَيَّاتِ فِي سَفَطٍ

انهار صرح الإسلام والثغر الأوسط بسقوط حاضرة الأندلس وأصبحت عاصمة لقشتالة وبعد هذه الضربة الموجعة التي تلقاها المسلمين بدأت حصون الإسلام تسقط تباعاً، يقول المؤرخ محمد عبد الله عنان: (وهكذا عدمت طليطلة كل مصدر للعون الحقيقي، كل ذلك والموقف يتحرج، وألفونسو السادس ماض في غزواته المدمرة، حتى أضحت سهول طليطلة كلها خراباً يباباً. ولم يكن يخفى على عقلاء المسلمين أن الموقف عصيب، وأن سقوط طليطلة إحدى قواعد الأندلس العظمى في يد قشتالة، إنما هو نذير السقوط النهائي، وأن انهيار الحجر الأول في صرح الدولة الإسلامية، إنما هو بداية انهيار الصرح كله، فبادر جماعة منهم إلى الحث على الاتحاد واجتماع الكلمة إزاء الخطر المشترك، ونهض القاضي العلامة أبو الوليد الباجي).

ما أشبه اليوم بالبارحة!

لا نذكر هذه الفاجعة التي حلت على مسلمين لنرمي عليها أوجاعنا أو لنبكي على اللبن المسكوب ولكن لاستخلاص العبرة فلا جديد اليوم، كم من طليطلة سقطت اليوم وكم من طليطلة ستسقط في الغد فإذا كان ملوك الطوائف أمس قد تراخوا حتى سقطت الأندلس فإن عيشنا اليوم تحت أحذية الجنرالات جعلنا نرى أراضي المسلمين تباع بأبخس الأثمان وبمباركة أراذل العمائم واللحى وإذا كان ملوك الطوائف قد استعانوا بأعدائهم لضرب إخوانهم وبني جلدتهم فإن ملوك الطوائف الجدد والمتلونين الذين نحسبهم منا قد باعوا دم الشهداء وكبحوا المقاومة وهرولوا نحو التطبيع وارتموا في أحضان بني صهيون حتى يكونوا لهم عزة.

يا من لذلةِ قومٍ بعدَ عزِّهمُ أحال حالهمْ جورُ وطُغيانُ
بالأمس كانوا ملوكًا في منازلهم واليومَ هم في بلاد الكفرِّ عُبدانُ

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.