كثيرون يرون أن هنالك فجوة بين العلوم النظرية والواقع العملي سيما في المجال السياسي ففي الوقت الذي ينغمس الباحثون والكتاب والمحللون في أطرهم النظرية وفرضياتهم المثالية يعيش السياسيون أجواء الصراع والتنافس والبحث عن المكاسب أو أقل الأضرار في عالمهم المليء بالتحديات والصعوبات والمفجئات، ويستدل على الفجوة بين الواقع العملي والعالم النظري بإخفاق أكاديميين كبار عندما وضعوا موضع التجربة في الواقع العملي، ونجاح أشخاص في الميدان العملي دون أن يدرسوا العلوم النظرية. وفي محاولة مني لجسر الفجوة بين الواقع العملي والأطر النظرية في الحياة السياسية خطر لي خاطر وهو تقمص دور شخصية سياسية بارزة ومحكاة دورها ومناقشة الملفات المطروحة عليها وكيف ساتصرف لو كنت مكانه من وجهة نظري وتصوري.
ونتيجة متابعتي للشأن التركي وللتحولات في الساحة التركية منذ أواسط التسعينيات وقع أختياري على شخص الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، فماذا لو كنت أنا مكان الرئيس أردوغان؟! وحتى لا أطيل على القارىء الكريم ساختار ملفات وقضايا تركية داخلية تشغل الرئيس والحزب الحاكم والراي العام في تركيا خاصةً ملف الانتخابات المحلية ونتائجها وما تلاها من لغط حول هذه الانتخابات. التقارير الواردة إلي تفيد بوجود تجاوزات جوهرية في انتخابات بلدية اسطنبول وهي بلدية هامة جًدا وللتعبير عن أهميتها أستذكر المقولة الشهيرة أن حكم تركيا يبدأ بحكم أسطنبول ومع ذلك سأقبل بنتيجة الانتخابات كوني قدمت مرشح من العيار الثقيل وقدت حملته الانتخابية بنفسي والأصل أنه يتقدم بفارق لا تأثر فيه تجاوزات اللجان وذلك لأن حزبي هو الحزب الحاكم والتشكيك في لجان الانتخابات حتى وإن كان صحيحًا يشكل مطعنًا بشرعية فوزي في الانتخابات السابقة البرلمانية والرئاسية التي نفذتها ذات اللجان الانتخابية تقريبًا.
لو كنت مكان الرئيس أردوغان سأعيد النظر في المنظومة الحزبية عبر تشكيل تحالف وطني عريض على أساس بناء الجماعة الوطنية التي تجمع على المصالح العليا للدولة والمجتمع التركي |
هذا من جانب ومن جانب آخر فإن خوض الانتخابات يحتمل الفشل كما يحتمل النجاح فماذا لوبقيت النتيجة كما هي ولم تتغير؟ إن ذلك بالطبع سيعزز من الرأي القائل بتراجع شعبية الحزب وفي حال فوز مرشح العدالة والتنمية فإن ذلك سيعطي إنطباعًا بأن الحزب الحاكم قد استغل سلطته بالالتفاف على نتائج الانتخابات واعادتها لايصال مرشحه والتخلص من مرشح المعارضة. لو كنت مكان الرئيس فسأقبل بنتائج الانتخابات كما هي حتى مع تحفظي ومعرفتي بالتجاوزات وسألتفت إلى الوضع الداخلي للحزب وسأبحث عن مواطن الخلل لتعديلها وسأقوم مع كوادر الحزب وقادته وانصاره بتقييم العملية الانتخابية برمتها وأعيد الحسابات كاملة بناءً عليها وهناك وقت كافٍ لذلك طيلة الاعوام الأربعة القادمة.
تلقيت وعلمت بما كتبه العضو المؤسس في حزبي الحاكم أحمد داوود أوغلو وهو رجل غير عادي ومن القلائل الذين نجحوا أكاديميًا وعمليًا ما بين أستاذ جامعي إلى وزير خارجية وصانع للسياسة الخارجية إلى رئيس للوزراء ورئيس للحزب الحاكم قبل التعديلات الدستورية والنظام الرئاسي، وبعيدًا عن مدى صوابية أفكار البرفسور أوغلو فسادعوا إلى مؤتمر عام استثنائي للحزب لبحث الافكار المطروحة ولو من باب تحقيق مكسب سياسي وتفويت الفرصة على تأسيس حزب جديد ينشق عن الحزب الحاكم ويهز قاعدته الجماهيرية ولو بنسبة ضئيلة، ولن اسمح بأي حملة اعلامية تشكك بالرجل ومقاصده ومرامية على الاقل في الدوائر القريبة مني.
لو كنت مكان الرئيس أردوغان ساتخلَّى عن موقع رئيس الحزب الحاكم لأن الحزب وإن كان في موقع السلطة فإنه يمثل جزء من الشعب ولا يمثل الشعب كله بينما رئيس الجمهورية يفترض به أن يمثل الشعب والدولة وأن يقف من جميع الأحزاب والمنظمات المدنية على نفس المسافة سواء اتفقت أو اختلفت معه في المرجعية الفكرية أو في وجهات النظر والرؤى السياسية، وأن لا يكون في موقع السجال والخصومة معها بأي حال. لو كنت مكان الرئيس أردوغان سأعيد النظر في المنظومة الحزبية عبر تشكيل تحالف وطني عريض على أساس بناء الجماعة الوطنية التي تجمع على المصالح العليا للدولة والمجتمع التركي وتختلف في آليات التنفيذ وأدواته فقط بعد حوارٍ وطني معمق وجاد وشامل على غرار الحوارات التي شهدتها البلاد مطلع الالفية الجديدة والتي تمخض عنها تأسيس حزب العدالة والتنمية ووصوله إلى السلطة.
لو كنت مكان الرئيس أردوغان سأبحث مع أركان إدارتي عن حل ليس فقط أمني لمسألة حركة الخدمة وبقيا المحاولة الانقلابية الفاشلة. لو كنت مكان الرئيس رجب طيب أردوغان سأسعى لاجتراح حلول ليست فقط عسكرية للمشكلة الكردية لتفويت الفرصة على كل من يحاول أن يوظف هذا الملف ضد مصالح الدولة التركية. هذا تصوري لو كنت مكان الرئيس رجب طيب أردوغان رئيس الجمهورية التركية ذات الحضور الإقليمي والدولي الهام ولا أعرف إن كانت أفكاري هذه قابلة للتطبيق ضمن معطيات الساحة السياسية التركية وما تواجهه من تحديات داخلية وخارجية أم أنها أفكار نظرية لا تتعدى كونها أحلام يقضة تدور في رأس صاحبها الأكاديمي الباحث الذي لم يسبق له أن شغل أي موقع سياسي؟!
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.