على هامش منتدى الجزيرة (13) الذي أقيم في العاصمة القطرية الدوحة الأسبوع الماضي، نستعرض أبرز التغيرات التي طرأت على الأزمة الخليجية بعد عامين من بدايتها.. لم يكن العامان اللذان مرا على الأزمة الخليجية الأخيرة ليغيرا الكثير في واقع منطقة الشرق الأوسط، باستثناء ازدياد عزلة الرياض وأبو ظبي إقليميا ودوليا، في مقابل تمكن الدوحة من كسر الحصار وتلافي أخطر تداعياته في وقت وجيز؛ غير أن ملفات مستجدة كصفقة القرن، واغتيال الصحفي جمال خاشقجي، ودخول السعودية والإمارات بصورة أعمق في اصطفافهما إلى جانب بعض أنظمة الاستبداد العربي، بتمويلهما وتسليحهما للثورات المضادة في بؤر عربية مختلفة، كلها عوامل كان لها بالغ الأثر في تغيير مسار الأزمة وأبعادها الإقليمية والدولية.
قضية صفقة القرن التي لاحت أولى معالمها حين أعلن رئيس الولايات المتحدة الأمريكية دونالد ترمب نقل سفارة بلاده لدى الكيان الإسرائيلي من تل أبيب إلى القدس المحتلة، كانت علامة فارقة في العلاقات الأمريكية العرب-إسلامية، فعلى الرغم من كل المواقف التاريخية لواشنطن في الانحياز على طول الخط إلى الرؤية الصهيونية، والحرص الدائم على تلميع وجه سياسات تل أبيب في المحافل الدولية، إلا أنه لم يسبق أن تجرأت أي إدارة أمريكية سابقة على إصدار قرار رسمي باعتبار القدس المحتلة عاصمة للدولة اليهودية، بيد أن صهاينة العرب تماهوا مع قرار ترمب، إلى حد الضغط على أقطار عربية رافضة لصفقة القرن للرضوخ للصلف الأمريكي كما يحصل مع الأردن.
تختلف التحليلات والتكهنات بشأن مآل الأزمة الخليجية في ظل المتغيرات المتسارعة في المنطقة والعالم، لكن المؤكد حتى الآن أن قطر خرجت من الحصار الجائر أقوى وأشد مما كانت عليه قبله |
وبعد انكشاف جريمة الرياض الشنيعة والموغلة في الوحشية، بتدبير خطة احتجاز مواطنها الكاتب الصحفي جمال خاشقجي داخل مبنى قنصليتها في إسطنبول، ثم إعدامه وتقطيع جثته وإذابتها أو حرقها، لم يعد أمام محمد بن سلمان ومِن خلفه محمد بن زايد سوى الهروب إلى الأمام بافتعال المزيد من الفتن والقلاقل في اليمن وليبيا، وأخيرا وليس آخرا في السودان التي تشهد انتفاضة سلمية ضد حكم العسكر، وهي كلها محاولات يائسة لكبح موجات الاحتجاجات الثورية المتتالية، والتي تهدد ارتداداتها بإسقاط كل الديكتاتوريات في المنطقة.
أما ثالثة الأثافي التي تنذر بقرب انهيار النظام السعودي، فهي ملف حقوق الإنسان الذي يوشك على الانفجار، بعد أن بلغ عدد المعتقلين السياسيين في السعودية المئات من الدعاة والمفكرين والإعلاميين والناشطين الحقوقيين، مات بعضهم تحت سياط التعذيب، ويعاني الباقون ظروفا إنسانية بالغة السوء، بعد أن حوكموا محاكمات صورية، أو حتى دون محاكمة أو صك اتهام واضح سوى مخالفة هوى محمد بن سلمان وحاشيته، في بلد يتشدق حكامه بالتزام تعاليم الدين الحنيف، واعتماد القرآن والسنة كمصدرين وحيدين للتشريع.
ولأن مصائب قوم هي فوائد عند آخرين فإن المستفيد الإقليمي الأكبر من حال التشظي والتنافر العربي هما كل من إيران وإسرائيل، فالأولى خلا لها الميدان لتسرح وتمرح وتعبث بأمن واستقرار العراق وسوريا واليمن، لتقترب أكثر من تحقيق أطماعها التوسعية بالهيمنة على الخليج بعد أن ابتلعت العراق والشام؛ أما إسرائيل فقد استفردت أكثر بالضفة الغربية وقطاع غزة بسبب الخلافات والصراعات بين الأشقاء العرب، فلم يعد للشعب الفلسطيني أي حليف عربي قوي يدعم صموده ويدافع عن قضاياه، في مواجهة الغطرسة الصهيونية المدعومة بقوة من أنظمة غربية كثيرة.
وبعد تآكل النفوذ السعودي وتراجع الدور الذي لعبته الرياض كحاضنة وراعية للأمة باعتبار رمزيتها الدينية والحضارية، وسقوط الدور القومي العروبي الذي مثلته القاهرة إلى حد ما قبل انقلاب السيسي، لم يبق للعرب أي مظلة جامعة مانعة تحول دون استباحة ما تبقى من كرامة هذه الشعوب، وهو الوضع الذي يحيل على اندلاع المزيد من الانتفاضات الشعبية كصيرورة اجتماعية طبيعية لملء الفراغ الذي خلفته الأنظمة المنشغلة بالمكائد البينية.
قد تختلف التحليلات والتكهنات بشأن مآل الأزمة الخليجية في ظل المتغيرات المتسارعة في المنطقة والعالم، لكن المؤكد حتى الآن أن قطر خرجت من الحصار الجائر أقوى وأشد مما كانت عليه قبله، وأن صهاينة العرب فشلوا فشلا ذريعا في التسويق لصفقة القرن، وأن تطلع الشعوب العربية إلى الحرية والكرامة لن يتوقف، وأن أموال السعودية والإمارات ومَن خلفهما لم ولن ينجحوا في إيقاف قطار التغيير.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.