شعار قسم مدونات

ماذا لو كانت الروح عضوا؟

blogs تأمل

لطالما تخيلت الروح ككبة حلوى غزل البنات؛ كتلة من الهواء الكثيف الذي يشبه ضبابا نقيا، أبيضا وخفيفا، يسبح في سماء يوم مشرق… أتخيلها متماسكة من الداخل مرهفة من الخارج، لها نقطة مركزية وكأنها قلب يضخ بدل الدم نورا، ينبض ويتعب ويشع ويخفت، لكنه لا ينطفئ إلا مرة واحدة لا يشتعل بعدها أبدا. أتخيلها كفضاء رحب يخنقه الجسد لكنه لا يحده، مليء بالأسرار التي تجعل اكتشافه معقدا والتعامل معه صعبا في ظل العجز عن التحكم فيه.

 

لفترة طويلة كنت أعتقد أن الحياة كانت لتكون أسهل لو أن هذه الكتلة كانت لحمية أو شحمية حتى؛ لو أن الروح كانت عضوا نحركه كما نحرك أصبع اليد، نشكله ونلونه كما نفعل بشعر الرأس… أو أنها كانت معدة، بالإمكان أن نرى بوضوح الطعام الذي نطعمها إياه، فنحضره وننتقيه ونتشاركه مع من نريد، نعرف قيمته أكان بسيطا أم فاخرا، نستشعر المغص بسببه إن كان مضرا، نستلذ بما طاب منه ونميز المغذي منه والذي لا يفيد، يقدم لنا غذاءها في مطاعم وعبر وجبات سريعات، نختار منه لأنفسنا وندعو الاخرين ليتقاسمو وإيانا جزءا منه. لو أنها كانت عظمة فقط، نعرف متى وكيف تنشق ونجبرها حين تنكسر برباط أو حديد أو شرايين حتى، أو أنسجة أو أي شيء آخر مادي، نراه أو نلمسه، نعرفه أكثر ولا نشعر بأنه شيء غريب يسكننا ونحاول التعايش معه، بل ندرك بأنه جزء منا ونمتن لكونه كذلك.

  

كنت أتجاهل فكرة مهمة هنا، وهي كون العلم الذي لم يكتشف بعد كل خبايا معجزة الجسد البشري سيكون عاجزا عن إيجاد جواب لكل العلل التي قد تصيب الروح ولو تحولت لعضو

وأنا أتخيل كل ذلك يتبادى الأمر أبسط مما هو عليه الآن؛ فأن تكون الروح عضوا ماديا كان معناه بالنسبة لي أن يصير بالإمكان اثبات الأعطاب التي يمكن أن تصيبها وكذلك وصفها؛ سيصبح عاديا معه أن نتكلم عن حمى الروح والتهاباتها وغيرها من المشاكل التي يمكن التحدث عنها بسلاسة مع الاخرين، سيصبح متداولا أخذ لقاحات وقائية لتفادي الفيروسات الموسمية وتناول مضادات بكتيرية في حالات النزلات الروحية العابرة وتتبع أنظمة علاجية خاصة عندما تصبح الحالات أكثر تطورا. بت أشك الآن في أن هذا التصور مغلوط، وصرت أرى فيه تغافلا عن حقائق تعكس قيمة الروح في الماهية التي هي عليها الآن، تحول الروح لعضو مادي معناه غياب طاقة محركة للجسد ونقصان جزء مقدس منه واقتصاره على أجهزة مرتبطة بشكل ميكانيكي فقط؛ أكثر من ذلك، في الفكرة تجاهل لحقيقة كون هذا الجانب المبهم ربما هو ما يخفف وقع ما يعيشه الجانب المرئي ويشكل حاجزا يمنع الأضرار التي تصيبه من الارتداد.

 

وأنا أسرح بخيالي متحمسة أمام تبعات ما كنت أفترضه، كنت أتصور أن تحول الروح لعضو تستوجب أن يصير بالإمكان زيارة طبيب مختص في مداواتها، يقوم بفحصها يدويا أو بالأشعة، ويطلب القيام بتحاليل مخبرية قد تظهر نسب تفاوت المكونات فيها وتفاعلاتها، فيشخص الأمراض ويعطي الوصفات الطبية ويجري العمليات الجراحية في الحالات القصوى. مجرد تخيل امكانية الخضوع لعمليات جراحية على الروح كان يجعل الأمر يبدو كخيار بديل له الكثير من المحاسن؛ أن يتم تخدير الروح، فتحها واستئصال الخبائث التي تتواجد فيها ثم إغلاقها من جديد حسب بروتوكول طبي محدد يستوجب حضور طاقم طبي كامل يرى خلل الروح التي بين يديه ويدرك يقينا أنه موجود فعلا؛ وضعية تبدو أفضل من احتواء روح مجردة تعوم داخل الجسد دون أن تتخذ شكلا يجسدها، تستشعر آلاما على مستواها دون أن تكون قادرا على تحديد تموقعها بالضبط ولا أصلها.

 

كنت أتجاهل فكرة مهمة هنا، وهي كون العلم الذي لم يكتشف بعد كل خبايا معجزة الجسد البشري سيكون عاجزا عن إيجاد جواب لكل العلل التي قد تصيب الروح ولو تحولت لعضو؛ ستفتح مستشفيات روحية وهذا لا يعني بالضرورة أن يدخل إليها كل الناس مرضى تعبين ويخرجوا بأرواح معافاة، وستظهر طفرات وأمراض مزمنة وأوبئة معدية وفيروسات قاتلة لا محالة، غير أن هناك جانب يجعل إصابة الجسد تبدو أهون، وهي أن جراح الروح تمثل تجارب خاصة يصعب تقييمها أو وصفها؛ كل منها لا تشبه الأخرى، قد يسقط الفرد في فخ تضخيمها وتتجاوزه أو يستصغرها فيتناساها بداخله إلى تنفجر في وجهه، والأهم هنا هو أن الناس لا تراها بالضرورة ولا تحس بها أو تدرك حجم الضرر الذي تلحقه وهذا وجه الاختلاف الحاسم بين الوضعيتين.

 

وأنا أتخيل روحا معذبة مجروحة أو مكلومة، مصابة بما يشبه سرطان الروح لو أنها كانت عضوا، أتخيل لو أن أعراض الألم الداخلية تظهر على المصاب به فأتخيل المحيطين به يواسونه ويتفهمون أنه يخوض حربا فيدعمونه وهم يرون بأعينهم المخلفات التي يتركها السرطان على روحه، يجعلني أتساءل في حيرة عما هو أهون؟ وعما إذا كان الألم يبدو أقسى حين تصعب رؤيته أم أن استشعاره يصير أكبر حين يكون بالإمكان النظر إليه؟

 

فأن تتراكم الخلايا السرطانية المدمرة وتشكل أوراما خبيثة وعدائية تقتل الناس هو لشيء مؤلم، لكن المؤلم أيضا هو انتشار غازات مسمومة لا يستطيع العلم رصدها، تتصرف بعدائية مع الجسد دون أن تلمسه وتودي بحياة الناس دون أن تقتلهم دفعة واحدة، يتدمرون في صمت وتحتضر مكنوناتهم دون أن يشعر بهم أحد، يحملون أمراضهم الروحية دون أدنى فهم لما تفعله بهم ولا قدرة على التخلص منها؛ يتعايشون مع سرطان من نوع اخر، كان ليكون أخف حدة ربما لو أن الروح كانت عضوا، وربما لا!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.