شعار قسم مدونات

الكتمان.. الطريق السريع لأسوء الأعطاب النفسية

blogs حزن

يعيش الإنسان في الدنيا حياة لا تخلو من المصائب والمحن المُعدة لتمحيصه، لكونه في دار بلاء وامتحان، فسُنن الله في خلقه مستمرة وقضاؤه على عباده سائر لا يتوقف، وكل واحد منا إلا وتصيبه نوازل شديدة وتقرعه قوارع الدهر تلو الأخرى، ومن غير الممكن أن تصفو الدنيا لأحد، فكلما انتهت فيها مصيبة أتت أختها، لهذا لا سلامة فيها من النكد والأحزان والشرور.

  

والناس في الصبر على البلاء منازل كما أنهم يختلفون في طريقة التعامل معها؛ فمنهم من يبلغ بهم قلة الإيمان بقضاء الله وقدره إلى درجة ينفد فيها مخزون صبرهم القليل بسرعة، فتجدهم يجزعون ويسخطون من مصابهم، ومنهم من يهرع إلى البوح لإفراغ مشاعره السوداوية التي يحس بها بعد الذي تعرض له لكي يحس بالراحة النفسية، وهنالك فئة أخرى سنخصها بالحديث بالتفصيل وهي التي تلجأ إلى الكتمان، لأنها تخشى الإفصاح بما يضمُر في دواخلها لضعف ووهن منها، فليس كل مُصاب في هذه الحياة قادر على البوح بما يقاسيه.

 

خبرنا الواقع بصفحاته الواضحة بأننا كلنا معرضون للأعطاب النفسية وإلى الدخول في أزمات نفسية حادة، ويستوي في هذا الرجال والنساء، غير أنه من غير المعقول عدم الاعتراف بذلك عند الغالبية

وسنتناول الكتمان بالنقد والتحليل من زاوية نفسية لتقديم رؤية وقائية تحصن الذات من هشاشة الاعتقاد غير الواعي بحقيقة الكتمان؛ من خلال بناء أسس ومرتكزات لتصور إدراكي صائب، ولكسب موقف جاد لا يخرج عن سياق الإقناع المنطقي الذي يقوم على تأسيس نظر مبادئي يوفر للذات مناعة قوية، لكيلا يتم إخراج المرء المتبني لها عن طبيعته السوية ومنعه مما يمكن أن يدفعه إلى مزالق قد تؤدي به إلى ما لا يحمد عقباه.

     

حقيقة الكتمان الخفية

ولا يكمن المشكل في حتمية عيش الإنسان حياة دنيوية تملؤها الوقائع المأساوية التي تمنح له كتلة من المشاعر السلبية الثقيلة على القلب فهذا أمر لا مفر منه، لكن العيب كل العيب في عدم الإفصاح عنها بكتمها وقبرها في بواطن ذواتنا، وهذا ما يشعل فتيل الأعطاب والاضطرابات النفسية ويعرض المرء لضغوط داخلية كبيرة، وعلى سبيل المثال؛ فعندما يكتم الإنسان غضبه وحزنه وآلامه وانفعالاته تجتمع لديه وتضغط عليه حتى يعود غير قادر على فهم ما أصابه، بل ويعجز حتى على التعبير عما به بشكل واضح، فبالتالي يكون أكثر عنفا وعصبية بشكل غير مفهوم ومن دون مبررات واضحة، ولا يقتصر الأمر على ذلك فقط، فكبت الانفعالات وكبح التعبير عما تحس به ذواتنا يتسبب في مشكلات نفسية وصحية عويصة.

 

وكما هو معروف للجميع، يخبرنا الواقع بصفحاته الواضحة بأننا كلنا معرضون للأعطاب النفسية وإلى الدخول في أزمات نفسية حادة، ويستوي في هذا الرجال والنساء، غير أنه من غير المعقول عدم الاعتراف بذلك عند الغالبية، لأنه في نظرهم ما هو إلا تصريح صريح بنقص غير مقبول تواجده، فكيف بالنفس أن تبوح بشيء تعتبره مرفوضا؟ ولذلك يتعمد الكثيرون إلى حبس مشاعرهم السلبية الشيء الذي يضاعف من الأوجاع التي تخلفها. والسؤال الذي يطرح نفسه بنفسه هنا: متى ندرك بأن ذهننا يتعب وأعصابنا تتعرض للتدمير حين نكون في وضعية الكتمان المؤدية إلى أمراض نفسية لا تقل خطورة عن العضوية؟

 

خلفيات وقوع الكتمان ومخلفاته

إن الذي يخشى مواجهة مشاعره السلبية يكون أكثر عرضة لمخلفاتها الوخيمة التي ينجم عنها أعطاب نفسية قد تخفى على من يصاب بها، كما أننا نجد أغلبهم لا يقدرون على أن يفصحوا عن مصابهم لأحد حتى لأناهم في محادثتهم الذاتية معها، ومن هنا يتبين أن المقصود بالكتمان في حديثنا هو التحفظ على المشاعر السلبية وعدم البوح بها ولو تضرعا للواحد الديان، وليس الكتمان المرتبط بحفظ الأسرار وإخفاء ما لا يجب أن يعرفه الناس من الأمور الخاصة.

  

الكتمان ليس حلا علاجيا لما نعاني منه هو فقط يبقيها في قيد الظلام بداخلنا، وبالخصوص الأمور التي تتعلق بهمومنا أو أحزاننا، على اعتبار أن الكتمان يجهد النفس بلا فائدة بل ويسبب في انهيارها الداخلي ولكن بهدوء، ويمكن تشبيه الكتمان بالنزيف الداخلي الذي لا يلاحظه أحد، ولكن ألمه يرهق صاحبه حد الهلاك، فلتتخلص من مشاعرك السلبية بترك الكتمان جانبا وأخذ البوح بعين الاعتبار، كي لا تصبح تلك المشاعر جاثمة على صدرك وتجعل ذاتك مصابة بأعطاب كثيرة.

 

فلتكن حريصا على اللجوء إلى خالق الخلق لتنفض عن نفسك غبار الكتمان، فصدره أوسع من أن يتحمل زفراتك، ليكن الله ملاذك الوحيد لأنه بمفرده من يقدر على أن يحل على صدرك برد الاطمئنان الدائم

وقد يكون الكاتم لأحاسيسه ممن يفتقد للجرأة الكافية لذلك، أو ممن يخشى كثيرا سخرية الآخرين منه أو شماتتهم أو حتى شفقتهم، أو قد يكون أيضا ممن يخجل من أن يبدو أمام غيره شخصا ضعيفا لأنه يرى على أن الكتمان مدخل يتيح لغيره استغلال مشاعره، لهذا نقول أن الإنسان الذي يتجاهل مشاعره ولا يعبر عنها سوف تتحول إلى اللاوعي الذي يسبب في أعطاب بالذات تظهر في أحيان كثيرة على شكل اضطراب في السلوك، بل وقد يكون السبب في وقوع أزمات نفسية والإصابة بأمراض سيكوسوماتية، وفي علم النفس هنالك تأكيد على أن ما يُكتم من أحاسيس لا يتم التخلص منها أبدا بقدر ما أنها تُكبت؛ والمكبوت لا يموت، لهذا قد يكون الكتمان أكبر جريمة ترتكبها في حق نفسك.

 

قرار التجاوز عن الكتمان مطلب مُلح

وبعد كل ما ذكرناه لا زال هناك تساؤل ضروري يستدعي إجابة شافية: إلى ماذا يحتاج مشكل الكتمان لكي يتم تجاوزه؟ إن تفادي الكتمان لا يتطلب من المرء امتلاك إمكانيات هائلة، ولا يقتضي استخدام أساليب التحايل وفنون التدبير الماكر، ولا يأتي من دون وجود الشجاعة الكافية التي بها يستطيع الفرد اتخاذ قرار تجاوز الكتمان الذي سيجنبه ما يمكن أن يضعف قدراته الذاتية ويضر بصحته النفسية، وسيغنم بفضل ذلك القرار بفوائد لم يكن يحسب أنه سينالها، وإذا أردت أن تتأكد من أن الكتمان هو صديق سوء، فلتنظر لأول ما يقوم به المرشد النفسي في بداية أي جلسة لإرشاد أي إنسان معطوب نفسيا؛ إنه يطلب منه أن يخرج ما في جوفه ويعبر عن أحاسيسه، وينصت له جيدا مهما طالت مدة استرساله في التعبير، لأن الإفصاح عما بداخل النفس هو نصف الحل لمعظم مشكلاتنا مهما كانت معقدة في نظرنا، فمن يريد الخير لصحته النفسية عليه أن يعبر عن أحاسيسه ببساطة، ليس بالضرورة عبر الكلام الشفهي من الممكن أيضا التعبير عنها بالكتابة وبالرسم وبأشياء أخرى حسب ميولات الشخص.

 

البوح للسميع هو العلاج الأمثل

يا من قلب له الدهر ظهر المجن، وتكالبت عليه الأيام، وادلهمت السماء فوقه تنذر بالخطوب، وأغلقت في وجهه المسالك والدروب، فإذا به كتوم يتوجس من البوح لغيره، والله بصير بحاله، إن البوح للسميع نهايته راحة لا يعقبها تعب ولا ندم، فما ‏‎أعظم من أن تسجد للباري وتشكو له همك وقلة حيلتك وضعفك، وتقول له كل ما في جوفك، فالله سبحانه لم يرسل البلاء ليُهلكك به ولا ليعذبك، وإنما افتقدك به ليمتحن صبرك ورضاك عنه وإيمانك الذي يتجسد في تصرفاتك وردات فعلك، فلتُسمع بوحك له بتضرّعك وابتهالك وليراك طريحا على بابه لائذا بجنابه، مكسور القلب بين يديه رافعا قصص الشكوى إليه وحده، فلتكن حريصا على اللجوء إلى خالق الخلق لتنفض عن نفسك غبار الكتمان، فصدره أوسع من أن يتحمل زفراتك، ليكن الله ملاذك الوحيد لأنه بمفرده من يقدر على أن يحل على صدرك برد الاطمئنان الدائم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.