شعار قسم مدونات

رِحلة الأملِ المجهول.. حبل حياة نقَّضته قوارب الموت

blogs - refugees

كلّ ما أرادوه هو أن يطووا صفحات فزعهم وأن يرموا بها في أيّ هُوّة حتى لو كان الخيار أن تكون هذه الهُوّة هي الموت.. واختاروا الهرب والفرار بعد أن امتلأت صفحات حياتهم وآمالهم بالسواد والظلم والاضطهاد والقمع.. كُلّ ما أرادوه هو الفرار من بين الركام خوفا من أن يردمهم.. وأن يسيروا بلا أقدام خوفا من أن تتلطخ سطوحها بدماء الحبيب والقريب والغريب.. كلّ ما أرادوه هو ألا يحتفظ أطفالهم بذاكرة لا تحمل بين طيّاتها سوى مشاهد الفزع والفقدان والصدمات والأشلاء. أرادوا كرامة حين استكثرتها عليهم وجوه الظلم.. أرادوا أخذ رغيفهم المسروق والتلذّذ به مرفوعي الرأس عزيزي النّفس.. حملوا أحلامهم بين أيديهم كلعبة الطفولة قبل أن تتمرّغ في الذلّ آملين العثور على احتواء كريم وابتسامة آمنة لن تُخطف منهم في لحظة دهشة.

هل يصحّ وأنا أكتب عنهم الآن أن أقول أنّهم فارّين؟ أم عليّ أن أقف لحظة لأتفكّر وأهذّب مفرداتي وأقربها أكثر من الحقيقة لأقول أنهم مطرُودون؟ ألم تقوموا بطردهم حين سرقتم رغيفهم وكلّ حقّ لهم في الحياة الكريمة ؟ ألم تقوموا بطردهم حين صغّرتم أحلامهم وهمّشتم كفاءاتهم وحرمتموهم حتى من حق شبر من الأرض ليكون لهم قبرا يدفنوا فيه.. لم يدفنوا حتى في تراب أوطانهم وكان للحوت في المتوسّط الحظّ الأوفر والنصيب الأكبر من لحومهم. لم يأخذوا من أوطانهم سوى أكفانهم و وعود الكاذبين تطنطن في الآذان حتى أصابها الصمم.

الهجرة ستبقى شرعيّة لكلّ من هرب من بلاد الحرب إلى بلاد الأمن وكل من هاجر من بلاد الفقر والظلم مبتغيا رزقه ورزق أهله ولكلّ من هاجر فارّا بدينه وكرامته وحياته

من الذي هجّر هؤلاء من أراضيهم التي تبادلوا معها العطاء؟ من الذي حطّم بيوتهم التي كانت تؤمنهم والتي احتووا فيها جميع صورهم وذكريات طفولتهم؟ من الذي لطّخ أراجيح الطفولة بالدماء؟ أتفتكّون منهم أراضيهم عنوة ثمّ تطردونهم بلا استحياء إن لجئوا إلى أراضيكم؟ أتقتلونهم وتقتلون كلّ معنى لحياتهم ثمّ لا تكتفون بالقتل بل وتجعلونهم كالكرة التي ترمون بها إلى بعضكم البعض والكلّ لا يريدهم والكلّ يهرب من مسؤولية استقبالهم في مشهد ساسي مضحكٍ مبكٍ يعرّي عن قناع الإنسانية الزائف.. ومن أين ستأتي الإنسانية؟ عجبا.. أتأتي من الذين أسكروا الأرض بمناهل من الدماء وغسلوها بأدمع الأبرياء.. أم من حكّام باعت أوطانها ورهنت شعوبها لترضي أسيادها؟

الطّرد في بلاد العرب لا يكون على المباشر وإنّما يُطبخ تحت الطاولات.. أنت تطرده حين تُجوّعه وتفتكّ منه رزقه.. أنت تطرده حين يمضي سنينا من عمره في الجامعات أملا في التشغيل الكريم وأملا في مستقبل على قدر الطموح والحلم فإذا به يبيع التين الشوكي على قارعة الطريق مثلا لأن ابن فلان أخذ مكانه في الوظيفة الفلانية ولأنّ فلانا سرق عمله حين دفع رشوة من تحت طاولة للمرتشي فلان.
في بلاد العرب يقدّم الفقراء قربانا للموت لتحيا وجوه الظلم ويباع الوطن لتستدير كراسي المفسدين وراء طاولات الفساد عابثة بحياة الأبرياء. في بلاد العرب يُباع ابن الزبيبة ليمنحه الغرب لقب ابن الأطايب لينطلق صاحب اللقب الجديد في الإبداع في الصناعة والطب والهندسة والابتكار والبرمجة مقابل تلك الحياة الكريمة التي حُرم منها في تلك الأرض التي ما كان عليه سوى أن يتعلّم فيها السباحة.

نحن لم نتعوّد على صور جثثهم تطفو فوق المياه.. ولم نتعوّد على صور أجسادهم التي تحتضر في المخيمات.. ولا على صور دموعهم التي صُبّت فوق الأسلاك العازلة حتى أصابها الصدئ متسولين أمانا متوسلين شبرا من أرض هي من الأصل أرضهم وحقهم. ونحن لم نتعوّد على ألفاظكم التي تنتقونها في كلّ خطاب وتكررونها على مسامعنا "مهاجرون غير شرعيين" و"لاجئون غير شرعيين" و"الحالات الشاذة من المهاجرين على قوارب الموت". ومنذ متى أصبحت الهجرة "غير شرعية"؟ لقد كانت ولا تزال وستبقى الهجرة جزءا لا يتجزأ من التاريخ البشري غير قابل للتوقف والانتهاء بالنسبة للإنسان أيّا كانت ديانته أو جنسيته أو عرقه أو لونه وهي باقية إلى قيام الساعة، "إنّ الذين توفّاهم الملائكة ظالمي أنفُسهم قالوا فيم كُنتم قالوا كُنّا مُستضْعفِين في الأرض قَالُوا ألمْ تكُنْ أرضُ الله واسعةً فَتُهاجِروا فيها فأولئكَ مأواهُم جهنّم وساءت مصيرَا إلّا المُستضعفينَ من الرّجالِ والنّساءِ والولدانِ لا يسْتَطِيعُونَ حيلةً ولا يَهْتدُونَ سبيلَا فأُولئِك عسَى الله أنْ يعفُوَ عنْهُم وكان الله عفُوّا غَفُورَا"، وقوله تعالى "يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ".

الهجرة ستبقى شرعيّة لكلّ من هرب من بلاد الحرب إلى بلاد الأمن وكل من هاجر من بلاد الفقر والظلم مبتغيا رزقه ورزق أهله ولكلّ من هاجر فارّا بدينه وكرامته وحياته. صدّقونا لم نتعوّد صور المآسي والذلّ الذي لحق بالإنسان الذي لم يقدّر له الله سوى الإكرام والكرامة.. أن نتعوّد على ذلّنا وذلّ إخواننا في الإنسانية هو في حدّ ذاته خيانة للإنسان فينا. وإن كانت الكلمة الصادقة هي كلّ ما بقي لنا فسنبقى صادحين بها ما دامت أصواتنا تصدح في الحياة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.