نتيهُ كثيرًا بين حقٍّ هادئٍ وباطلٍ يسترهبُ القلوب، فتلتبسُ علينا الحقائق، وتضيعُ خطانا بين إقبالٍ وإدبارٍ، بين ثباتٍ وانحرافٍ، بين إتباع وإعراض، فتغدو الروح أشبه بقطرةِ حِبرٍ هائمة في ثنايا ذاكرة صفحة بيضاء أَجْهَزَ الشتاتُ على سطورها المترَنِّحَة الموشومة بصبّار الصبر ولعنة الخواء، أو كقطرة ماءٍ تحتضر في صحراء لم تَعرف يومًا معنى الرواء. فنسارع لالتماس طريق الرشادِ من أهل الحقّ الذين هم أهله وخاصّته، الثّابتُون على الصِّراط في زمن الفتن كالكِبريت الأحمر قد عضُّوا على ثباتهم بالنّواجذ، من فاضت قريحتهم بفيوضاته، مَن حباهُم الله بيان القول وليونة القلبِ وحسن الخلُقِ وطيب الأثر والقبول بين خَلقه، مِن الذين جعلهم الله كقبس نورٍ في سماء دنياه، على قلّتهم ينيرُون تلك الظلمة التي اِعترت دواخِلنا، ويشدّون على أرواحِنا قبل أيدينا، فتجد القلوب تنتفضُ والوجدان ترتعشُ والأرواح تشرقُ بين أيديهم للحقّ، فيغدو وكأنه ماءٌ عذبٌ فراتٌ يترقرقُ من بين ثنايانا، ونورٌ ينبعثُ من بين شعابِ اليقين فينا التي قد أسدلت عليها العتمة شعرها الفحميّ ذات بؤسٍ أو غفلةٍ ما، فيستسلمُ كل شيءٍ فينا له تسليمًا مطلقًا دونما إذنٍ منّا ولا حتّى سلطانٍ.
وهو حالُ كلّ روحٍ اِلتبست خطاها بين باطلٍ انتفش فسَحر العيون فظنّت أنّه غالبٌ مُحيق، وحقٍّ مستضعفٍ خفتَ نوره وتوجّس أهله فظنّت أنه سرابٌ مدحورٌ… والحقيقة أنّ المعركة بين الحقّ والباطل، بين الجزع واليقين، بين الصّدق في نصرة الحق والتخاذل المهين، معركة أبدية، لكن هو الحقّ راجحُ الوزن ثابتُ القواعد، واقعٌ غالبٌ بأمره تعالى لا طامس له، وهي ذي سنّة الله في أرضه لا تبديل لها "وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ". فلا يغرنّك الباطل وإن عظُم واسترهَب واشتدّ وهجه فسيعود وينطفئ كما شعلة الهشيم، ولا تستيئِس من حالك إن زلت قدمك بعد ثبوتها وزاغ قلبك بعد عناء تثبيته، وخفتت همّتك بعد شدّة تَوْقها، فباب التّوب مفتوح لا يحجبه عنك حاجب، ولا يغرنّك تسلّط أهل الباطل في الأرض وجبروتهم فوعد الله لهم أن "نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَىٰ عَذَابٍ غَلِيظٍ"، ولا تهنْ نفسك إن لمحت فتيل الحقّ خافتًا محتشمًا، فقد أتانا الدين غريبًا وسينتهي غريبًا.
| الناظر لحال شيوخ السلاطين سيدرك التشابه بينهم وبين سحرة بلاط فرعون، قد أعلنوا الولاء التام لسلاطينهم، يسألون عن وضعهم إن هم وقفوا وسحروا أعين وآذان الناس بالباطل |
وفي هذا السياق في الصراع بين الحقّ والباطل، بين الكفر والإيمان، بين محاولة حجب الحقيقة وخضوع القلوب لها دون استئذان، يضربُ لنا الله مثل فرعون وملئه في مواجهة بينهم وبين سيّدنا موسى -عليه السلام-، يقول سيّد قطب -رحمه الله- في كتابه في ظلال القرآن: (إنه مشهد اللقاء الأول بين الحق والباطل، وبين الإيمان والكفر، مشهد اللقاء الأول بين الدعوة إلى رب العالمين، وبين الطاغوت الذي يدعي ويزاول الربوبية من دون رب العالمين!). انظُر إلى حال سيّدنا موسى وهارون -وحيدان- بالرغم من ضعفهما أمام طُغيان فرعون وجبروته وخوفهما ممّا قد يكون منه، وهو ما يصوّره الله في قوله: "رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى"، تكون الإجابة: "لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى"، هي معيّة الله ونصرته وتأييده، فمِمَن قد يخشيا؟ فانطلقا بهذه المعيّة يواجهان فرعون ومن معه دونما فزعٍ، لأنهما قد أدركا طبيعة المعركة، أنّها: "معركة عقيدة". وهي ذي النفس البشرية، حين تستيقن حقيقة الإيمان تستعلي على كل بطشٍ في الأرض، وتستهين بكل بأسٍ، وتترفعُ عن كلّ زائلٍ فانٍ فتنتهي بكلّ فعلٍ وقولٍ إلى الغاية الكبرى التي من أجلها خُلقت وبُعثت. وهو ذا جمال القصص القرآنيّ ينعكس دائمًا في روعة الموقف حين تبلغ ذروتها وتنتهي إلى غايتها، حين يتلاقى الجمال الفني في العرض مع الهدف النفسي للقصة، على طريقة القرآن في مخاطبة الوجدان الإيماني بلغة الجمال الفني، في تناسق لا يبلغه إلا القرآن.
ثمّ نقف أمام إدراك السحرة وقد أشرق نور الإيمان في قلوبهم، وجعل لهم فرقانًا في تصورهم، بعد أن حاولوا استجاش إحساس الرهبة في الناس، وقسروهم عليه قسرًا بسحرهم، قد خرّوا لله ساجدين، "وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ.. قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ.. رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ"، فكانت صولة الحق في ضمائرهم الغافلة، ونوره في مشاعرهم الخفيّة، ولمسته لقلوبهم المهيأة، وهي القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء.
والناظر لحال شيوخ السلاطين سيدرك التشابه بينهم وبين سحرة بلاط فرعون، قد أعلنوا الولاء التام لسلاطينهم، يسألون عن وضعهم إن هم وقفوا وسحروا أعين وآذان الناس بالباطل، وبالطبع يأتيهم الرد أن لكم ما تشتهون وتريدون، وهو ما شجعهم على المضي في باطلهم وقلب الحقائق، يغيرون خطاباتهم بما يتوافق مع أهواء وأمزجة سلاطينهم فلا يحيدون عنهم قيد أنملة، يزيّنون الباطل وهم أدرى الناس ببطلانه، لكن هكذا عمى البصيرة إن ابتلي أحدٌ به. وهو ذا عائض القرني يخرج على السعوديين ليعتذر لهم عن سنوات الصحوة التي مارس فيها خطابه المتشدّد، معترفًا بصريح قوله أنّه يتبع دين سلطانه: "أنا الآن مع الإسلام المعتدل المنفتح على العالم الوسطي الذي نادى به سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان والذي هو ديننا"…
وهذا التصريح تعبيد واضحٌ للناس بإخضاعهم لحكم بغير شريعة الله وأمره، فمواجهته النّاس بهذه الحقيقة الفاسدة، تُسقط عنه لاحقًا كلّ التزامٍ ومأخذٍ بقول الحق في إطار دين الله الذي لطالما كان يدعو له؛ فالداعية لله حقًّا ملزمٌ دائمًا بقول الصّدق مهما تعرّض للتنكيل وحوطته الشدائد "حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ". وهي بذاتها إعلان تحرير الإنسان، تحريره من الخضوع والطاعة والتبعية والعبودية لغير الله، تحريره من شرع البشر، ومن هوى البشر، ومن تقاليد البشر، ومن حكم البشر في أمثالهم البشر. وما هذا إلاّ مثال بسيط، فأشباهه كثر، كلّ يستغبي الناس بطريقته ويصعد فوقهم بنعله الذي يجب أن يناسب وليّه قبل أن يناسبه، كل يؤوّل الآيات بما يتناسب ومقصده، وما هذه إلا فتنة قد تصيب كلّ داعية إلى الله فلا يأمن أحدٌ على نفسه منها.
مشهد سحرة فرعون مع موسى قد انتهى بانقلابهم على فرعون، بعد أن أبصروا الحقيقة وهي تتجلّى أمام أعينهم واضحة وضوح الشمس في أشد أيام القيظ، فهل سيعود ويتكرر المشهد مع الدعاة الذين استبدلوا دين "محمد بن عبد الله" بدين "محمد بن سلمان"؟ وهل سيدرك كلّ من صفّق للباطل يومًا ما فختم الله على قلبه وبصره فتاهت خطاه عن الحق؟ لا شكّ في ذلك، فلابد لهذا الباطل أن يزهق مهما اشتدّ واتّسع، فيعود وينكمش كقنفذ مذعور. فكما دَبَّ الإيمان في قلوب سحرة بلاط فرعون وتغلغل في نفوسهم وهزّ أرواحهم رغم تجمُّعهم لِطمسه وإبطال دعوة سيدنا موسى وأخيه هارون، ورغم تجبّر فرعون عليهم قبل تسليمهم وبعده ومكره وتهديده ووعيده، سيَدُبُّ في قلب كلّ من رغب في جوار الله، ويقعُ كلمسةٍ خفيّةٍ حانيةٍ تُعيد الأبصار إلى قبلتها فلا تلتفتُ بعدها ولا تحيد، فيغدو الإنسانُ بكلّ ما فيه يدور حول إرضاء الله مهما زاغ قلبه وشتتته النوائب والشهوات، فيعود فيستقرُّ ويجتمع كما مكونات الذرة التائهة حين تجتمعُ بمداراتها الثابتة.
وهي ذي حقيقة الإيمان المتجرّد، لا يجتمعُ والتعلّق بأوساخِ الدنيا في قلبٍ واحدٍ، فإذا ما تمكّن أحدهما تلاشى الآخر، فإما أن يتمكن الإيمان فيُنير القلب بنوره فيُبصر، وتتجلّى في الوجه سماحته، ويصدّقه القول والفعل، وإما أن يخفت وهجه حتى يزول شيئًا فشيئًا فيغدو القلب قفرًا خواءً لا حياة فيه، يغطيه سديمٌ مِن الدخان.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

