شعار قسم مدونات

معراج النفس.. دليل التزكية الملكية

blogs دعاء

كنت دائمًا أتسأل ما الذي يدفع النفس البشرية وخاصةً القريبة من الذات والمحبة لها؛ لتحمل في جيب معطفها السميك هذا الكم الهائل من الغيرة والحقد والحسد.. حتى لو كان ذلك على حساب بعض أهدافهم، هذا وإن لم يكن ركام سقوطك هو نفسه هدفهم ليقيموا عليه دولة نجاحهم.

 

بحثًا عن هذا السبب، وأثناء سماعي لشرح (صحيح البخاري) لفضيلة الشيخ هاني العلي -حفظه الله- حيث ذكر في كتاب الإيمان، عن _أنس رضي الله عنه_ أن النبي _صلى الله عليه_ وسلم قال: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه). نعم، سمعت هذا الحديث من قبل مرارًا وتكرارًا، لكن هذه المرة نزل منزلةً في النفس؛ فتأملت به جيدًا ووضعته في آفاق الفكر، وثنايا القلب معًا؛ لعلي أدرك قطرةً من بحر هذا الحديث الجميل! ومن هنا، إن هناك خصال فطرية جبل عليها كل إنسان، ومنها: الغيرة، والحقد، والحسد، ولا شيء يطفئ نار شهواتها المستعرة غير حبل الله المتين، المتمثل بقوة الإيمان وسلامة القلب. لكن للأسف، قد تبلغ هذه الخصال درجة المضرة المعنوية أو الجسدية حتى لو كان ذلك يكلف البقاء. هي نفسها طبعًا التي دفعت قابيل ليقتل أخيه هابيل، أيضًا هي نفسها التي دفعت إخوة يوسف ليلقوه في غيابة الجب. وكلهما هنا بلغ أعظم درجة قرب، وهي الأخوة.

 

لو لم تكن سلامة القلب، وحب الخير للغير، من الأمور الشديدة التي تتطلب مجاهدة النفس، وتخالف أهوائها وشهواتها لما قارنها حبيبنا محمد _صلى الله عليه والسلم_ في الإيمان. فالإيمان كما تعلمون، من الأمور العظيمة التي يقوم عليها هذا الدين، والعظيم لا يقارن إلا بعظيم مثله، فلا إسلام دون إيمان وتوحيد لله عز وجل، ولا إيمان كامل دون حب الخير للغير. ولو لم يكن تمني الشر للغير خصلةً نتنةً في ذاتها وكينونتها العفنة؛ لما ذكرها وحذرنا منها الملك سبحانه في وهج آياته، ومحكم تنزيله. فبين سبحانه آثار الغيرة والحسد الذي بلغ في الإنسان حد القتل لأقرب الناس في قصة قابيل وهابيل فقال: (واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانًا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين) الآية. (فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين). وفي قصة يوسف _عليه السلام_ قال سبحانه: (إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين. اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضًا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قومًا صالحين) الآية.

  

اعلم جيدًا يا رفيق الدرب، أن من يتمنى لأخيه الخير والنجاح والفلاح؛ فليبشر بنجاح وفلاح يتجاوز أبعاد النفس وآفاقها العملية، وأهدافها السلوكية والحركية، فكم من محب للخير تمنى لأخيه الخير فعاد له

وبهذا تكون رذيلة الغيرة والحقد والحسد، من أشنع الرذائل، وأقبح الخصال؛ التي دفعت الإنسان لارتكاب أول وأفظع جريمة نكراء، في تاريخ البشرية جمعاء، وهذه رسالة واضحة خطيرة للعقلاء، فهذه الرذيلة إن طغت وبغت على النفس أغشت نور القلب، وأوردته المهالك، وقادته بغفلة تدريجيا لأسوء المسالك. فاليوم حسد قلبي، وغدًا حسد لفظي، ومن ثم حسد فعلي؛ فيكون اللقاء؛ فيحل غضب السماء. عافانا الله وإياكم. أقسم النفس البشرية اتجاه الآخرين إلى ثلاثة أقسام: نفس سفلى، ونفس وسطى، ونفس ملكية.

 

أولًا: النفس السفلى: وهي النفس التي تتمنى زوال النعمة من الغير، وتحمل الحقد والغل والحسد، فترى نجاحها مقرونًا بسقوط الغير، فلا نجاح لها دون سقوط لك، وهي أشد النفوس خبثًا والعياذ بالله، وهي منبثقة من النفس الأمارة التي ذكرها الله سبحانه في محكم التنزيل على لسان امرأة العزيز فقال: (وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم). هذه النفس والعياذ بالله تهوي بالإنسان إلى دونية الحب، كما خيط العنكبوت في غيابة الجب.

 

ثانيًا: النفس الوسطى: وهي النفس التي تتمنى زوال النعمة من الغير حينًا، وبقائها حينًا آخر. فاليوم حب ونصح وعمل، وغدًا بغض ومكر وحسد. وأرى أنها أشد وأخطر من الأولى؛ لأنها بوجهين مختلفين، فلا تكاد تميز بين وجه الخير ووجه الشر. بخلاف الأولى، التي هي ثابتة معروفة خباثتها. أما هذه تأتيك بصفة الواعظ الناصح للخير صباحاً، وصفة الواعظ الماكر للشر مساءً. فقد تعزف أوتار نجاحك الآن على قيثارة النصح، وأوتار فشلك غدًا على قيثارة الحسد؛ لتصنع لك سيمفونية خاصة من صوت صراخك، أو صوت سقوطك، أو كلاهما! وهي بلا شك نابعة من آفات القلب، وحشرات الروح الضارة.

 

ثالثًا: النفس الملكية: وهي النفس التي تتمنى لك الخير والحب والتفوق على الدوام، فلا نجاح لها دون نجاح لك، ولا تفوق لها دون تفوق لك، فإنجازاتك أنت، إنجازاتها هي، وسقوطك أنت، سقوطها هي، فهي مرتبطة بك بعلاقة طردية إيجابية، فهي نفس طاهرة، سليمة، جميلة، لا شائبةً تشوبها، ولا فتن تهيبها، حسناء قائمة بذاتها، ومصدرها فراسة فكر، وحب قلب، ونزاهة روح، وشفافية جسد. وهي نابعة من النفس المطمئنة الزكية. قال تعالى: (يا أيتها النفس المطمئنة. ارجعي إلى ربك راضيةً مرضيةً. فادخلي في عبادي. وادخلي جنتي). هنيئًا لمن يمتلك هذه النفس الملكية الجميلة، التي تحمل في معطفها الوردي البهي الحب والخير. فمن ملكها فقد ملك ما لا يملكه غيره: من راحة، وسعادة، وطمأنينة، وتفوق في الدنيا والآخرة، فهي تسمو في الإنسان سمو العارفين الواثقين، تمضي ولا تلتفت لحثالة قارعة الطريق، فلا شيء يخدش طهارتها وعفتها.

  

أيها السالك طريق الوصول، قف هنا! وتدارك نفسك أخي، وكن قويًا، مرابطًا، حازمًا، على ثغر ذاتك الفوضوية، ورتب تفاصيل أفكارها على رفوف عقلك البتار، وعالج آفاتها بمبيدات التوبة والاستغفار، وتجرد من حشرات الغل والحسد والأوزار، ونزه نفسك الشهوانية إلى مقام الأطهار، واصنع لنفسك سلمًا من الطهر والحب في السحر، وسر على خطى من هدي فظفر، لينتشلك من ظلامية يوم عسر، وغمرة الشر الأشر، ونزوات المكر المزدجر، لتسمو في آفاق الذات الملكية سموا مستقر، فهي محراث الدخول لرضا مليك مقتدر.

 

واعلم جيدًا يا رفيق الدرب، أن من يتمنى لأخيه الخير والنجاح والفلاح؛ فليبشر بنجاح وفلاح يتجاوز أبعاد النفس وآفاقها العملية، وأهدافها السلوكية والحركية، فكم من محب للخير تمنى لأخيه الخير فعاد له، وكم من مبغض لأخيه تمنى الشر فعاد له، وكأنه تمنى لنفسه ما تمنى لغيره. فالملك سبحانه يأخذ ما تتمناه لغيرك ليرده عليك أضعافًا مضاعفةً، خيرًا كان أم شرا! فحرص كل الحرص على أن تتمنى لأخيك كل ما تحبه لنفسك من خير، ورزق، وبر.. حتى يعيد الله إليك نفعه في الدنيا قبل الآخرة. واحذر من شر، وحقد، وحسد، خر من سماء نفس أمارة مارقة! لتتخطفك طيور أهوائها الفارقة، أو تهوى بك رياح شهواتها الساحقة. وهنا نتذكر حديث أبي الدرداء _رضي الله عنه_ أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ كان يقول: (دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة، عند رأسه ملك موكل كلما دعا لأخيه بخير قال الملك الموكل به: آمين، ولك بمثل). رواه مسلم.

 

دعونا جميعًا نسير في ركب الحب والإخاء؛ فدهاليز السياسة، وفتن الحداثة، وخباثة الرئاسة، بل إكسير الحياة نفسه الياسر، لم يعد يتدفق فوق أنفاسنا بلطف في عالمنا المعاصر. أجل، دعونا نسير جنبًا لجنب بنفس ملكية ولا نلتفت، لعلها توقد نور العشق، لينتشلنا من ظلمات الهوى، من غيرة، وبغض، وحسد دفين، إلى نورانية ونصح وخير تلين. تلك حالة من حالات السمو التي تعرج بالنفس لسدرة الحب المتين، لتقودنا شيئًا فشيئًا إلى مقام الأنس؛ لنرتقي بذوقها وحدة واحدة صعودًا، لنصل إلى حالة من حالات القرب، على ثرى محراب القلب، لتهيم وجدًا في ارتشاف نبضات الحب.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان