شعار قسم مدونات

من الأربعين شبيها.. هل لي نسخة يابانية؟

blogs يابانية

استيقظ كمواطن عربي فخور بعروبته، أتوضؤ بماء عكر غير صالح شربه، أنظف أسناني بمعجون لا تميزه عن معجون حلاقة شعر إبط الرجال، مكتوب عليه بنكهة النعناع المنعش، طعمه أقرب لمادة بلاسيتكية مذوبة، سعره بسيط مقارنة بحجمه الضخم، أنظر لوجهي ولملامحي البسيطة الهادئة وكما تمتاز الفتاة العربية الشرقية، أحمد الله على عيون مكحولة كبيرة تتسع لكل أحلامي وطموحي وأهدافي التي ما اهتدت للنور بعد، ما منعها عنه إلا ضيق البلاد بأهلها، أما البشرة فليست بالصافية فتلك الشامات ما هي إلا قبلات شمس الصحراء الحارة فوق شفتي وتحت الحاجب وأول الرقبة.

أرتدي ملابسي التي ابتعتها من محل يدّعي أن بضاعته تركية المنشأ، بينما الملصق أعلى الرقبة يخدشها ليكشف كذب التاجر الفهلوي، وبعد أول غسلة -بمسحوق يجعد الأيدي ويحرقها- أعرف أن تنورتي ما حبكت إلا بأيدي خياطي وسط البلد، ترى رؤوسهم نابزة من الشبابيك العتيقة المهلهلة، كل ما يحيطهم سواد الجدران وعتمة الأزقة والأدراج المؤدية لمعاملهم، ما إن دخلتَ حتى رأيتَ الوجوه المسكينة الشاحبة تعيش في ثقب إبرة، لا أكثر بل أقل، أما الجزء الآخر من ملابسي فغربية المنشأ، اشتريتها من التصفيات الأوروبية، ما كتب عليه من تايلند فهو منها فعلا، لذا فغسلتها وأدرت الغسالة عليها شوطا وشوطين لأضمن أن لا تنتقل لي العدوى من أولئك الغرب غير المتطهرين، غسالتي جيدة اشتريتها بالأقساط التي خدعوني فقالوا مريحة، لكنها غسلت أموالي وجففتها وطيرتها فطارت البركة مع أقساطها التي لم تنتهي منذ عام.

إن دحرجتَ الكرة الأرضية وأدرتَها لتصل إلى الجهة المعاكسة تماما، وعلى النقيض تماما تماما، أستيقظ كمواطن ياباني فخور بإمبراطوريته، أغسل وجهي بماء عذب، أنظف أسناني بمعجون ويكأنه صنع خصيصا لي ولحالة أسناني

انتعل حذاء لم يتم الخمسة شهور حتى تقطعت أحشاؤه وبرزت مساميره، واهترأ رباطه، ومع كل خطوتين انحل وأربك خطوتي التي لا تنفك تلاحق رغيف الخبز ولا تصله، هو يدحرج للأعلى وأنا أزحف للأسفل، أصادف كثيرا وقليلا من الناس، يكرر لي الجميع وجهك مريح ومألوف، ويبالغ البعض ناعم وجميل، وأنا لا أعلم كيف يكون وجهي مألوفا لكل هؤلاء المجهولين الذين لم ألتق بهم إلا توا، هل رأوا أشباهي الأربعين الذين صاروا ألفا ونيف، ولا أظنها مجاملة، فالعربي شحيح للمجاملة إن لم يجد مصلحة، ومن له مصلحة مع فتاة تقف على الشارع ربع الساعة ونصفها تلهث كالشريدة راجية ربها أن يسخر لها دابة تقودها دابة -والله دون تعميم ولا تخصيص بل بين بين- لا يكتفي بالأجرة المتفق عليها بل يسعى دوما لسرقة خمسة قروش زائدة، يستلذها كما لو كانت ستسد كل ديونه وتفرج كل كرباته وتغلق ثقب الأوزون وتعدل المناخ، فيستبيحها لنفسه حقا من محفظتي شبه الفارغة إلا من قصاصات ورق لإعلانات عمل، ومقالات استحليتها، وصور لأطفال العائلة وصورة لي عندما كان وجهي ممتلئا وسعيدا أرتدي زي التخرج، تلك الصورة الجميلة ترى بعيني انعكاس لسجاد أحمر يفترشه لي مديري الأعمال مرحبين بي في مؤسساتهم الناجحة لأزيدهم نجاحا فوق نجاحهم، ثم لأكتشف فيما بعد إن ما هو إلا انعكاس قطعة المخمل الحمراء التي زينت سواد "روب التخرج" وسواد واقعي.

ثم أفتح كتابا يلازمني منذ شهر ذهابا وإيابا، علني أصير الحدائثية المثقفة الأديبة النجيبة، فيلهيني عن القراءة طفل يتعلق بزجاج السيارات ليغسل واجهتها ناسيا غسل وجهه، وجهه شاحب كما النفوس ومتسخ كما الحكومات، ينهره الجميع ويرفضه المجتمع، فلا كسب رزقه ولا مسح وجهه ولا أنا قرأت كتابي لأنهيه، لأصل أخيرا -متأخرة- لعملي، ولن أكمل عن العمل مساوئه أو محاسنه، فلا رغبة لي بأن أطرد، تأخذني فرحة الجرأة في الطرح وتصفعني فاتورة الكهرباء، فينتصر الندم ولا يسعفني قارئ!

وإن دحرجتَ الكرة الأرضية وأدرتَها لتصل إلى الجهة المعاكسة تماما، وعلى النقيض تماما تماما، أستيقظ كمواطن ياباني فخور بإمبراطوريته، أغسل وجهي بماء عذب، أنظف أسناني بمعجون ويكأنه صنع خصيصا لي ولحالة أسناني، لا ينقص إلا أن يكتب أسمي على غلافه، سعره ليس بالبسيط، لكنه قدر تقديرا على ميزاته، بل وحتى فاقت ميزاته ثمنه، أنظر لملامحي ولعيوني الضيقة شعري اللامع الصحي، وبشرتي التي لا تشوبها شائبة، صافية كصفاء فخذ طفل، أرتدي ملابسي اليابانية الصنع الفاخرة وذات الخامة الجيدة التي لا غش فيها، الملصق مكتوب عليه صنع في اليابان، فأطمئن لتلك الآلات والمصانع التي خاطت وحبكت، وأثق بالأيدي البشرية التي ما تدخلت إلا لتزيد جودة فوق جودة، انتعل حذاء لازمني منذ عام ولم يتعب، كل أحشائه بصحة جيدة، رباطه ثابت كما خطوتي التي تسير هي الأخرى بثبات نحو العمل، ألقي القمامة في مكانها المخصص ألتزم بإشارة المرور والاصطفاف في الدور لأركب الحافلة على الموعد وبرفقتي كتاب كما غالبية الركاب، لأصل عملي على الموعد أيضا، مديري يرحب بي على عجل، الجميع مضبوط كما عقارب الساعة، ولا يخرج عن مساره ولا يتخلف، وما إن أجلس أمام شاشتي حتى أبدأ بفيض من الإخلاص والالتزام والحرص على العمل دون التفكير بشيء سوى إنهاء -والأصح إنجاز- هدفي اليومي، وصولا للشهري والسنوي، وهكذا إلى أن أكون مواطنا تتشرف إمبراطوريته به ويتشرف بها.

نحن لا نعلم كيف شاءت الأقدار وسبحنا في فلك عربي وزرعنا برحم عربي، وذاب لحم كتفنا وبرز العظم منه جوعا وقهرا حربا وإبادة، تخلفا ورجعية، لا ولاء ولا انتماء إلا للقمة العيش حتى قبلنا فم الكلب وعبدنا العجل واختفى العدل وساد الفساد بين العباد، طرد الأشراف وهانوا ونكبوا ونكسوا، فعلا الرويبضة كل جبهة، حتى بات الشريف مالك المال وخازنه، والجميل جميل الملبس والهيأة، وانعدم مقياس الخلق والصدق والأمانة. إن كان لملامح المرء دور في شقائه، فلا أظن أن لي نسخة يابانية، بل هي على الأغلب في أعالي جبال التبت، تتنشف بردا، تصاحب الذئاب وترعى الجواميس، يتكدس الجليد فوق حاجبيها وغرة برزت من تحت شالها، تشتهي حرارة الشمس الدافئة ولا تجدها، فالشمس هنا في الصحراء تقبل حاجبي، تقبل خدي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.