شعار قسم مدونات

متى يكون الألم دافعا للتغيير نحو الأفضل؟

BLOGS تفكير

الألم معاناة حسية وتجربة بغيضة لا يرغب فيها الناس بصفة عامة، لأنه غالبا ما يكون ناجما عن أذية لحقت بهم وتسبب لهم ردات فعل متباينة، ولا يمكن للألم أن يعبر دائما عن كوننا مصابين بعلة ما في حياتنا، كما أنه لا اختلاف في عدم وجود المانع الذي يحُول بيننا وبين الشعور بالألم في هذه الحياة سواء العضوي منه أو المعنوي، لكن الاختلاف قائم في نظرة الإنسان إلى الألم وطريقته في التعامل معه والتي تختلف من شخص لآخر؛ إذ ليس بمقدور كل شخص التنبه إلى الجانب الإيجابي في الإحساس بالألم وإدراك ذلك عمليا؛ بتحويل سلبيته إلى طاقة إيجابية دافعة نحو التغيير للأفضل، لهذا فالشعور بالألم لا يفضي إلى التغيير تلقائيا من دون رغبة جامحة من المتألم، بالرغم من أن الألم من أهم ما يعجل بضرورته بتوليد الدوافع للعمل من أجل إحداث التغيير في الواقع الشخصي.

 

والألم إما أن يحطم الإنسان ويفقده قواه وتوازنه، فيتحول إلى شخص خائر القوى مسلوب الإرادة يائس بائس، وإما أن يخرج ما لديه من طاقات كامنة تسير به نحو التغيير الذي يحفزه لتحقيق أهدافه المنشودة بعزيمة قوية وروح معنوية مرتفعة. فما الذي يحدث الفرق يا ترى؟ وما المطلوب لكي يكون الألم دافعا للتغيير نحو الأفضل؟ يتحول الألم لأداة تغيير بناء حين يتوفر ما يلي:

 

أكثر الناس عقلانية وحكمة هم الذين تجرعوا آلاما مريرة وأثخنوا بالمواجع، لكنهم لم يستسلموا لذلك وأمنوا بقدرتهم على الصبر والمقاومة، فالألم يولد لدى الأقوياء طاقة إيجابية تمكنهم من الوقوف بثبات

– الاستبصار والفهم السليم للنفس والذي يقتضي التعرف بدقة على الألم المتجرع وما يختلج بسببه في جوانحها من أحاسيس ومشاعر تساعد الفرد على اتخاذ قرار التغيير الصائب.

– الثقة في الذات التي تحول الألم إلى قوة دافعة؛ فبفضلها تخرج الطاقات المخزونة التي تحدث التغيير في حياة الفرد، وتبعد عنه ما يباغته من وهم وخوف يخلفان عواقب مدمرة.

– القبول الذاتي للألم والذي يجعلنا نتكيف مع آلامنا ويمنعنا من الإرغام الداخلي على الاستسلام عندما تزداد النكسات التي تعقب الشعور بالألم الذي قد يعاودنا مرارا.

– النظرة التفاؤلية المفعمة بالأمل والتي تدفع النفس لمواجهة الألم بإيجابية وصبر واحتساب وتحمل ممزوج بروح التحدي العالية بعيدا عن القنط من الألم وما ينجم عنه.

– الرضا الخارجي المرتبط بكل ما يحيط بالشخص والذي يعوِّد النفس على ما يأتيها من صدى خارجي يعقب إحساسه بالألم، كما يحرر الإرادة من كل العوامل التي تقمع الذات وتضغط عليها.

 

ولا يمكن أن نغفل طبيعة علاقة الإنسان مع ذاته المتألمة التي كلما كان السلام الداخلي متوفرا فيها إلا وأفضت إلى عيش حياة سعيدة يملؤها الرضا رغم المعاناة، ويرجع ذلك إلى ما شكَّله الألم من طاقة ذاتية متجددة، ففي اللحظة التي يقرر فيها الإنسان التغيير يستجيب جسده وإن كان مشبعا بالألم. كم من ألم نتلقاه فنشكر صاحبه ولو كان من عند أنفسنا، لأنه كان السبب في إيقاظنا من غفلتنا، بل قد يكون بمثابة الجرعة الناجعة للتغيير وإيجاد طريق النجاح، فالطاقة المتولدة من الألم يمكنها أن تبعث في النفس شعورا عارما بقوة الإرادة، باختصار الألم محفز قوي إن استغليته للتغيير، ومثبط مدمر إن تمكن من استغلالك، فالتحدي المتأجج في نفس المرء المتألم يعطيه قوة خلاقة للتغيير نحو الأفضل، والأخذ بذاته نحو تحسين قدراتها ويساهم في إخراج ما تتوفر عليه من مكامن القوة ومخازن الإبداع، كما أنه يأجج الحرص على الصمود ويبعده عن الانهزامية القاتلة.

 

ويبقي الألم محفزا قويا للتغيير لأن تغذيته استرجاعية لها طابع غير مؤقت؛ وقد ندرك به ما يجب أن نفعله وما لا يجب أن نفعله، خصوصا حينما يتمكن من إيصال رسائله الإيجابية إلى عواطفنا معلنا عن حاجتنا الماسة لتغيير مسارنا أو رغبتنا الملحة في التحدي لرؤية الأشياء من منظور مختلف يجعلنا أكثر تأملا وتفكيرا في تحويل اتجاهاتنا وحثنا على النظر للأمور من زوايا مغايرة وترتيب أولوياتنا في الحياة بشكل دقيق. ومن المؤكد أن تجرع الألم في هذه الحياة من قضاء الله وقدره، وعدم الرضا به يجعل الروح فارغة مكللة بالخيبات والوساوس التي تبعد التفكير السليم عن العقل وتجعل القلب يتخبط في مشاعر سوداوية حادة من الحزن واليأس، ويمكن أن يؤثر هذا الاضطراب على جوانب عدة في حياة الإنسان المتألم.

 

إن أكثر الناس عقلانية وحكمة هم الذين تجرعوا آلاما مريرة وأثخنوا بالمواجع، لكنهم لم يستسلموا لذلك وأمنوا بقدرتهم على الصبر والمقاومة، فالألم يولد لدى الأقوياء طاقة إيجابية تمكنهم من الوقوف بثبات في وجه المحن والمصاعب التي يمكن أن تواجههم في الحياة، إذ لا شك أبدا في التأثير الكبير الذي تفرزه الطاقة التي يخلفها الشعور بالألم، لأنها تهز المشاعر وتحولها من الصورة الكامنة إلى الصورة الفاعلة أو النشطة، لهذا فالعظماء هم من يدفعهم الألم إلى التغيير بمواجهة التحديات ببسالة، فيتحولون إلى أبطال وقادة ومبدعين ومكتشفين، بل ومنهم من يدخل التاريخ من أوسع أبوابه ويصبح رمزا من رموز  العطاء النبيل.

 undefined

و‏‎وراء كل إنسان عظيم ألم فظيع نابع عن شعور داخلي حفزه على التحدي ومكنه من تغيير واقعه بشكل فعال رغم صعوبة حياته وقسوة ظروفه، وقد يكون مجرد فقد إنسان عزيز أو خذلان شخص مقرب أو تفشيل متعمد قادر على إيصال الإنسان إلى إحداث تغيير جذري في مختلف جوانب حياته، وهذا ما يؤكد أن الأمور التي تولد الألم يمكنها أن تبدل نظرة الإنسان للحياة وتغير من قائمة أولوياته واهتماماته وعمق نظرته للوقائع ولأشياء كثيرة، بل إنها قادرة على إكساب الإنسان مناعة قوية وقوة جبارة على المقاومة والمواجهة بعد أن يتمغنط العقل على الإيجابية التي بها يمكن أن يحصل التغيير المأمول.

 

وهذا لا يمنع من قول حقيقة مُرة تتمثل في كون الكثير من الناس استطاع الألم أن يحولهم إلى قبور يدفنون فيها آمالهم وطموحاتهم، فتراهم يدمنون المخدرات والمسكرات، أو يقارفون الجرائم والمحرمات، أو يعادون غيرهم لمحاولة تجاوز ذلك الألم بشكل سلبي يزيده تعقيدا ولو أبطأ مفعوله السلبي للحظات، ولا ريب من أن الألم يخلق مواقف صعبة بل وقد تصبح مأساوية في حالات كثيرة لكن ذلك ليس عذرا لحصول ما ذكرنا من تصرفات غير سوية.

 

وفي الأخير ينبغي التنبيه لنقطتين مهمتين، الأولى: لا يمكن الاستفادة من الألم من دون امتلاك الإرادة التي تفعِّل عند الإنسان إمكانية الاختيار لا الجبر، فقد يختار الإنسان التغيير نحو الأفضل مع تحمله الألم عندما يدرك المميزات الناتجة عنه، والتحول من الضعف إلى القوة في الألم يلزمنا التركيز على ما يبعث النشاط الفعال ويحرك طاقة الحياة فيه، وليس على ما يثبطه من خلال سلبياته ومساوئه، والنقطة الثانية تتمثل في كون التغيير الذي يتبع الشعور بالألم ليس إلا تحوّلا من الضعف إلى القوة بفعل الإرادة الفاعلة، وما يكتشف بفضله من خبايا وغنائم ذاتية لا يمكن أن تكون لمجرد التفكير في التغيير، بل يلزم العمل عليه وبذل الجهد الكبير، وعلى سبيل المثال التجارب والوقائع المؤلمة التي تحدث في حياتنا ما هي إلا فرصة لنا لنقلة حقيقية بالتفكير في إمكانية ممارسة التغيير بجانبه الإيجابي الذي يمكننا من تنشيط طاقاتنا الكامنة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.