شعار قسم مدونات

الفن في خدمة الاستعمار.. حين جند نابليون الفنانين في جيشه!

blogs نابليون

لطالما كان الشرق محل اهتمام وفضول بالنسبة للعالم الغربي ولعل حملة الجنرال نابوليون على مصر والشام1798- 1801 أول حملة تكشف الستار عن هذا المجال الذي كان ملخصا عند الغرب في بيئته الساحرة ونسائه الغاويات وسلاطينه الساديين وكل ما هو اكزوتيكي وغريب ومستوحى من ثنايا حكايات ألف ليلة وليلة وربما كان التأثير الفني والثقافي لهذه الحملة موازيا في الأهمية لتبعاتها السياسية والاستعمارية.

 

وكما أورد الناقد الأدبي الراحل وبروفسور الادب المقارن بجامعة كولمبيا سابقا إدوارد سعيد في كتابه المعروف الاستشراق1978 فإن الاستشراق كحركة ثقافية قد مهدت لها حملة بونابارت على مصر ولا يراها إدوارد سعيد كمجرد حملة طموحة يقودها جنرال مغامر بحثا عن المجد بل هي تعبير عن الرغبة في اخضاع والسيطرة على الشرق ليس على مستويات عسكرية فقط بل ثقافية أيضا.

  

وبغض النظر عن الدوافع السياسية للحملة كالسعي وراء منع انجلترا من الوصول إلى الهند، كان للحملة جوانب علمية. ومنها وضع الأسس الأولى لعلم المصريات أو ايجيبتولوجي بعدما عثر جندي فرنسي على ما يعرف بالروزيتا ستون أو حجر رشيد والذي عمل كمفتاح لفهم حضارة مصر القديمة. وخلافا لما أورده سعيد في كتابه المؤثر فالاستشراق ساهم في دخول وولادة الفن الشكيلي في مصر والشرق الاوسط. طبعا، يعتبر الشرق غنيا بجميع أنواع الفنون الصنائعية والفطرية فبتالي لا يمكننا نسب كل هذا الفضل للحملة في ولادة الحركة التشكيلية بهذا المجال الجغرافي الغير المنفتح على الصورة والنحت، لكن ما نقصده هو ولادة حركة فنية تغنت بالتقنية المدرسية والأكاديمية بعد بناء كليات للفنون سنوات قليلة بعد الحملات.

 

بطبيعة الحال ساهمت تيارات المستشرقين هاته في دخول الفن التشكيلي على المستوى الأكاديمي لأول مرة للشرق الاوسط خصوصا وهذا الاحتكاك مع أكبر فناني أوروبا مهارة

تعتبر حملة نابوليون بونابارت على مصر في سنة 1798 من أكثر المواجهات عنفا وأهمية بين الشرق والغرب. لعبت هذه الحملة دورا هاما في تكوين صورة عن الشرق للغرب. ليس هذا وحسب بل ووفرت، رغم جميع نكساتها، دلائل ووقائع ملموسة عن الشرق بعيدا عن الأسطورة والخيال الشفوي المنتشر. فنابوليون لم يذهب للشرق ليوسع من نطاق غزواته فقط بل قصد أن يدرس الشرق. لهذا أخذ معه في هذه الحملة نخبة من العلماء المثقفين وأهم من هذا الرسامين والخطاطين اللذين لعبوا دورا مهما في توثيق حملاته وإرضاء جنون عظمته.

 

في البداية، طلب نابليون من الفنان الفرنسي المشهور جاك لويس دافيد (1825-1747)، فنان بلاطه، بمرافقته.، لكن رغم رمزية نابوليون عند دافيد إلا أنه رفض هذا العرض السخي تاركا المجال للفنان الفرنسي دومينيك فيفانت دينون وتلميذ دافيد انطوان جين غرو(1835-1771 ). لوحات غروشكلت دعاية كبيرة لنابليون حيث رسمه غروعلى أنه القائد الفرنسي الذي سيبشر الأراضي المقدسة بالحرية الفرنسية كما فعل في لوحة ضخمة انهاها في سنة 1804 تحت عنوان "نابليون يزور ضحايا الطاعون بيافا". تصور هذه اللوحة الجنود العرب والفرنسيين الذين اصيبوا بالطاعون حينما كانوا في معركة بتل أبيب سنة 1799.

 

عموما، هذه اللوحة هي عبارة عن دعاية محضة لحملة نابوليون بحيث يظهر هو في اللوحة يلمس ويهدأ من روع جنوده المصابين بالطاعون. في الأصل، طلب نابوليون من غرو رسم هذه اللوحة ردا على ادعاءات تقول أنه هومن سمم جنوده ب يافا وتخلى عنهم. وعلى عكس هاذه الاتهامات، صور غرو نابوليون على أنه ذلك الجنرال المسؤول لدرجة أنه لمس أحد الجنود بينما شاح مساعده بنظره بعيدا. فبتالي، الفن كان وسيلة توثيق أولا ودعاية مهمة لصالح الحملة ثانيا.

 

تاريخيا، حط الجيش الفرنسي في الاسكندرية في1 تموز1797 حيث واجه مقاومة ضئيلة من طرف المصريين. لم تلبث تلاث أسابيع حتى وصل هذا الاخير إلى القاهرة، القلب النابض لمصر، منتصرين على جيش المماليك وذلك لأسباب عسكرية محضة. مجددا، أرخ غرو هذه المعركة بلوحة دعائية عملاقة مشهورة سنة1810.

 

ربما أعظم فنان استشراقي رافق نابوليون هو الفنان الفرنسي دومينيك فيفانت دينون والذي كان من بين الرسامين والخطاطين الأوائل الذين ناد عليهم نابوليون تعويضا عن غياب دافيد. دينون كان حينها معينا من طرف نابوليون كمدير لمتحف اللوفر والذي أغناه بالتحف المأخوذة من مصر في هذه الحملة. منذ أن حط قدميه على أراضي مصر الاكزوتيكية، قام دينون بإمضاء معظم وقته بالتخطيط والرسم والكتابة والإعداد لمؤلف ضخم سيعرف لاحقا بالاسم الفرنسي

Voyage dans La Basse et La Haute-Égypte Pendant les Campagnes du Général Bonaparte (1801-1803)

ويعتبر هذا الكتاب من أكثر الدراسات الاستشراقية تفصيلا لمصر وتضاريسها وحتى سكانها. فمن جهة وفر رؤية ملموسة للغرب عن الشرق وبالخصوص مصر والتي كانت مجرد مكان مجلوب عندهم ومن جهة أخرى دينون والمستشرقين الاخرين مثل غرو فتحو الباب لموجة من الفنانين الشباب الذين ملوا من نفس المشهد الأوروبي المسيحي وتوجهوا إلى الشرق ولعل الفنانين الفرنسيين يوجين ديلا كروا الرومانتيكي وجين ليون جيروم الواقعي أبرزهم.

 

بطبيعة الحال ساهمت تيارات المستشرقين هاته في دخول الفن التشكيلي على المستوى الأكاديمي لأول مرة للشرق الاوسط خصوصا وهذا الاحتكاك مع أكبر فناني أوروبا مهارة. وتجدر الإشارة على أن المغرب هو آخر بلدان شمال أفريقيا التي دخلها الفن الشكيلي على المستوى الأكاديمي بعدما أسس المستشرق الغرناطي ماريانوبرتوتشي أول معهد للفنون الجميلة سنة1945 بمدينة تطوان التي كانت حينها، شأنها شأن شمال المغرب وجنوبه، مستعمرة من طرف إسبانيا.

 

صحيح أن هذه الحملة لم تكن ذي أهمية في البداية ولا مدتها كانت طويلة لتشفع لها فرض تأثير فوري بالمجال إلا أنها صنفت كأول بعثة قدمت دراسة حقيقية عن الشرق رغم جوانبها الكولونيالية بل ورغم استنكار بعض الفرنسيين لها كونها كانت كارثة عسكرية بصمت بالعار على مجد فرنسا الطويل. فبتالي، حملات نابوليون على الشرق، رغم كل الصعوبات التي واجهتها، مهدت لسلسلة من الحملات الكولونيالية على الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والتي دخل عبرها فنانون لطالما رغبوا برؤية هذا الشرق الذي يتكلم عنه الجميع بأنفسهم مساهمين في ولادة حركة فنية محلية بداية باحتلال الجزائر من طرف فرنسا سنة .لكن للأسف حال الفن دون أن يكون خطابا تتحاور به الشعوب لحمله لأيديولوجيات المستعمِر وتركيزه على دونية وعدم تحظر المستعمَر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.