شعار قسم مدونات

نحن سعداء جدا جدا.. وعليكم أن تصدقونا!

BLOGS سعادة

لقد نجحنا نحن البشر في الخروج من عفويتنا بإرادتنا، لقد نجحنا في تحويل مشاعرنا إلى مظاهر وطقوس اجتماعية، لقد تراجع شعورنا العميق بالرضا والسعادة رغم أن قدرتنا على تزييف هذه المشاعر صارت بارعة جدا. فنحن لم نعد نفرح بالفعل رغم أننا بتنا نمارس مظاهر الفرح باحتراف، لقد تحول الفرح إلى وصفة محددة يجب أن نتبعها بحذافيرها، إلى قائمة من الشروط والظروف والموجودات، تمر أقلامنا لترسم إشارة "صح" على كل منها، فنتأكد أننا لا بد إذن سعداء الآن.

أعراس مثالية وفرح مزيف

إن الرقص العفوي في الأفراح، وابتسامات الأقارب الصادقة، وتوزيع الأطعمة الحلوة تعبيرا عن فرحنا تحول إلى طقوس ومظاهر ثابتة لهذا الفرح، تجب ممارستها حتى لو غاب الفرح نفسه، بل صار التفنن في ممارستها مقياسا لمقدار سعادتنا بها. فالعروس لم تعد ترقص على أنغام أغنيتها المفضلة بضحكة من القلب وبدون كثير من التفكير في حركاتها، بل صارت تزور مدرسة للرقص قبل العرس بأشهر، لتتدرب هي وعريسها أو هي و"وصيفاتها" على العرض الذي سيقدمونه للآخرين. وكم من عروسين يتابعان تقديم فقرة الرقص الخاصة بهما، والناس ينظرون إليهما بانبهار، بينما هما يتهامسان في جفاء عن نوعية الورد التي لم تعجب العروس، أو عن كلمة أحد الأقارب التي أزعجت والد العريس!

نحن لم نعد نستمتع برحلاتنا دون أن نوثق كل لحظاتها لحظة بلحظة، دون أن نأخذ الصور عند كل منظر طبيعي جميل، وفي كل متحف، ومع كل وجبة، رغم أننا ننتقص من متعتنا في كل مرة نتوقف فيها عن معايشة اللحظة لنلتقط صورة

وإن كؤوس العصير وصرر الملبس لم تعد كافية لتظهر للآخرين أننا سعداء في هذه المناسبة، بل استبدلنا بها الأطعمة الفاخرة، وعلب الضيافة المنتقاة من تشكيلة كبيرة، وأغطية الطاولات المزينة بالورد الأبيض والشموع الطويلة الملفوفة، لأن هذا كله جزء من وصفة السعادة التي علينا أن نتبعها. ولقد غابت عن أعراسنا تلك اللقطات العفوية، التي تظهر العم سامح منشغلا بتناول الكعك خلف العروسين، أو أم العريس وهي مغمضة العينين بينهما، أو ابنة الجيران تنظر من زاوية الصورة لطرحة العروس بثغر مفتوح. بل يجب على الصور الآن أن تكون مثالية، ويجب على كل هذه التفاصيل الفوضوية الصغيرة أن تُستبعد منها، رغم أنها جزء حقيقي من الفرح.

وصار المصورون المستأجرون يتفننون في إظهار العريسين بأجمل هيئة، صار على العروس أن تتحمل برودة الطقس أحيانا، والسير بالكعب العالي على أرض غير ممهدة أحيانا، والثبات في وضعيات غير مريحة أحيانا أخرى، من أجل أن يلتقط لها المصور صورة بديعة، ولا يهم عندها إن كان وراء هذه الصور البديعة سخطٌ من تكلفة زائدة عن الاستطاعة، أو حوارات متوترة أثناء التصوير، أو آلام في الظهر، أو غضب بسبب الطقس. وكم من عرسٍ يبتسم فيه الجميع للكاميرات ضاحكين، ونفوسهم تغلي غيظا من تصرفات فلان أو التعليق اللاذع لفلان.

ورغم ذلك فنحن نستمر في ممارسة مظاهر الفرح الذي لم نعد نحسه، نستمر في الابتسام للناس وللكاميرات، وكأننا نستعرض فرحنا استعراضا، فيشعر الآخرون به ويهنئوننا عليه، دون أن نشعر به نحن، فلم يعد المهم ما نشعر به، بقدر ما تهم المسرحية التي نقدمها للآخرين!

وفي الرحلات أيضا

ونحن لم نعد نستمتع برحلاتنا دون أن نوثق كل لحظاتها لحظة بلحظة، دون أن نأخذ الصور عند كل منظر طبيعي جميل، وفي كل متحف، ومع كل وجبة، رغم أننا ننتقص من متعتنا في كل مرة نتوقف فيها عن معايشة اللحظة لنلتقط صورة أو نسجل فيديو للأصدقاء، وننتقصُ من متعتنا في كل مرة نفتح فيها حسابات التواصل لنرى حجم التفاعل وعدد المشاهدات.

وخلف الابتسامات العريضة في الصور قد يكون ثمة مزاج معكر، أو استعجال من قبل شريك الرحلة، أو تذكُّرٌ مزعج لشخص نريد أن نغيظه بهذه الصورة. نحن نقتطع من حياتنا ومن سعادتنا الحقيقيين جزءا لكي نمارس أمام الآخرين مظهرا من مظاهر السعادة، نحن لا نفكر في أن نكون سعداء بالفعل بقدر ما نريد أن نثبت لهم أننا سعداء، نحن يرضينا اقتناعهم بسعادتنا أكثر من اقتناعنا أنفسنا بسعادتنا.

وفي الحب أيضا

حتى الحب لم نعد قادرين على أن نعيشه بعفويته، فالحب صار له وصفة ثابتة. والصناديقُ التي تخرج منها البالونات المنفوخة بالهيليوم، والبتلات الحمراء المنثورة على الأرضية وفوق السرير، ومفاجأتنا بإضاءةٍ خافتة وشموعٍ مشتعلة، وقوالبُ الكعك التي تحمل أسماءنا.. كلُّها صارت جزءا من الوصفة الواحدة للحب، نطلبُها حتى لو غاب الحب نفسه، فالمهم في النهاية أننا نمشي على الوصفة، ونتبع التعليمات، المهم أن يرى الآخرون أننا سعداء، أن نشعر بأنه لم يفتنا شيء مما يتكلم الآخرون عنه وعيونهم تلمع من الفرح، فنحن أيضا تلمع عيوننا حينما نروي هذه التفاصيل للآخرين، لا بد أنها تلمع، يجب أن نجعلها تلمع! رغم أننا نعلم أن الشموع الموزعة على المائدة جاءت بعد أسبوع من الخصام، وأن البتلات الحمراء على السرير نريد فيها إغاظة القريب الفلاني، وأن الصندوق الذي تطير منه البالونات نحن من أشرفنا على ترتيبه لنتفاجأ به أمام الكاميرا، وأن كلام الحب الذي نشرناه على صفحة فيس بوك أردنا به أن نثبت لزملاء العمل أننا نعيش قصة حب. حتى أولادنا صاروا جزءا من تمثيليتنا المرهقة، ملابسهم، علاماتهم المدرسية، مواهبهم، والشعر الكيرلي الذي ورثوه عن الجدة، وحفلة عيد الميلاد التي وثقنا كل لحظاتها، كلها أصبحت تفاصيلا من لوحة سعادتنا التي نصدرها للآخرين.

قوالب السعادة الجاهزة

نحن نريد أن نقفز في قوالب السعادة المتعارف عليها حتى لو لم تلائمنا، نريد مهنة يقول عنها الناس أنها رائعة، نريد شريكا يقول عنه الناس أنه "لقطة"، نريد أولادنا يحسدنا عليهم الآخرون، نريد دراسة يمتدح الناس تميزها، نريد هواية يقولون عنها أنها راقية، نريد أن يكون لدينا دوما ما نبهرهم بهم، ما نتكلم عنه بزهو عندما نلتقيهم، ما يكون موضوعا مثيراً يحضرُ في جلساتهم عندما نغيب نحن. فسعادتنا لم تعد تُقاس من الداخل، صار الآخرون مقياس سعادتنا، بتنا لا نصغي لأنفسنا، للدرجة التي نسينا معها ما الذي نريده بالفعل، لم يعد مهما ما الذي نريده نحن، فكل ما نفكر فيه هو اتباع الوصفة المنتشرة للسعادة، حتى لا نشعر أنه قد فاتنا شيء ما.

وحين نجد أنفسنا في داخل القالب الذي حشرنا أنفسنا فيه، دون أن نشعر بما توقعناه من سعادة، فإننا غالبا لا نعترف بذلك، نستمر بالتظاهر بأننا سعداء، نتواطأ مع الآخرين على الكذب على أنفسنا، لا نبوح بخيبتنا، ولا نفشي سرها، فلا أحد يفشي هذا السر في النهاية، فنحن حياتنا مثالية، ونحن أكثر الناس حظا، ونحن أسعد خلقِ الله على هذه الأرض، نحن سعداء، سعداء، سعداء للغاية، نريد أن نصرخ بذلك في وجه كل من نقابله، نريد أن نتأكد من أنه يصدق ذلك، من أنه يحسدنا عليه، نحن نريد للجميع أن يقتنعوا بأننا سعداء، سعداء جدا، سعداء جدا جدا، وعليهم أن يصدقونا، ولا يهم بعدها إن اقتنعنا نحن بذلك أم لا!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.