شعار قسم مدونات

"Midnight in Paris".. عن الحنين للماضي وأشياء أخرى

مدونات - منتصف الليل في باريس

هل اجتاحك يوما ما ذلك الشعور بأنك تعيش في حقبة لا تناسبك؟ هل تساءلت يوما عن السر وراء الحنين الذي يصيبك كلما زرت أماكن تهيج ذاكرتك أو ذلك الاطمئنان الذي تخلفه رؤية صورك القديمة؟ الحنين لعندما كان كل شيء جيدا وكان الجميع سعداء.. فتتمنى لو تستعيد تلك الحياة ولو للحظات.

تخيل إذن شعور كاتب في سنة 2010 مسحورا بالأدب القديم يجد نفسه جالسا وجها لوجه مع الكاتب الأمريكي سكوت فيتزجيرالد ومواطنه الشهير إرنست هيمنغواي.. وقبل أن ينجح الكاتب المغمور في استيعاب ما يقع وتحليله منطقيا يجد نفسه وسط الفضاء الثقافي الفرنسي منتقلا بين لقاءات ساحرة، ليشرب الشاي مع جرترود شتاين في صالونها الأدبي، ويشاهد بابلو بيكاسو عن كثب وهو يرسم إحدى لوحاته، ويرافق ت.س.إليوت لملاقاة سالفادور دالي ولويس بونويل، بل ويوحي لهذا الأخير بفكرة فيلمه العظيم "السحر الخفي للبرجوازية".

  

كل هذا وإن يبدو ضربا من الجنون إلا أنه سيناريو ليس بالغريب عن المخرج وودي آلن وفيلمه "منتصف الليل في باريس". يحملك الفيلم إلى ليالي حالمة في باريس حيث تتداخل العصور الذهبية التي عاشتها المدينة في عشرينيات القرن الماضي، ويجد البطل "جيل" فرصة للالتحاق بتلك الحقبة كل يوم بعد منتصف الليل، ويلتقي بفتاة يقع في غرامها تنتمي لتلك الفترة وتحن للماضي، ماضي ابعد مما هم فيه.
     

باريس للمرة الأولى عوض نيويورك:
الشعور بأن الحاضر زهيد ويحتاج أن يعتّق كالنبيذ ليصير مذاقه شهيا، هذا الشعور هو الفكرة التي حاول وودي إيصالها من خلال فيلمه منتصف الليل في باريس

نعم، باريس هي المكان الذي تدور فيه أحداث فيلم وودي ألن، عوض نيويورك التي اعتاد وودي تصوير أفلامه فيها حتى لُقب بمخرج نيويورك، لكن هذا لا يدعو للقلق، فحينما يعشق وودي مدينة ما فذلك كافي ليخلدها بفيلم يحترم عراقتها وقيمتها الأدبية، يأخدنا وودي في جولة دافئة بين دروب باريس فترة العشرينيات، يجوب الشوارع والمقاهي، ويضيف للمدينة بريقا خاصا عندما تهطل الأمطار، فتظهر كلوحة فنية معلقة في متحف ما.

  

استعار وودي ألن فكرة المكان والزمان من المخرج بونويل فقدم لنا تحفة سينمائية بانتقال سلس بين الأزمنة من الحاضر للماضي والماضي الأبعد، كالركوب في أرجوحة يدفعها وودي ألن. نادرا ما يغيب وودي عن أداء دور في أفلامه، وفي هذه المرة غاب عن المشهد لكنه كان حاضرا من خلال الحوارات المطولة وشخصية البطل جيل الذي يقلد وودي في حركات يده وعقده النفسية الكثيرة.. وودي استبدل جسده العجوز بجسد الممثل الشاب أوين ونستون ليعيش حلمه بباريس الشابة.. ويقول وودي: "أريد أن أظهر باريس على نحو مثير للعاطفة، أو بالأحرى أعبر عنها كما أراها أنا شخصيا.. أي أراها من خلال عيناي".

  

الماضي ليس سوى حاضر سابق:

الشعور بأن الحاضر زهيد ويحتاج أن يعتّق كالنبيذ ليصير مذاقه شهيا، هذا الشعور هو الفكرة التي حاول وودي إيصالها من خلال فيلمه، فذلك التفضيل للماضي رغم أنه حينما كان حاضرا في يوم ما لم يكن سوى أياما متكررة هو متلازمة بشرية، يضعنا الفيلم إذن أمام مأزق فلسفي حينما يتعرف البطل على فتاة تعيش في الماضي لكنها تتأسف عنه وتتطلع لماضي أخر لتلتقي جيلا أحسن من الموجود أمامها.

  
يحاول وودي في الفيلم إضافة عنصر أخلاقي على السيناريو حول ضرورة رضا المرء بحاضره، فجيل يحن للعشرينيات هربا من خطيبته في الحاضر التي لا يجد معها أي نقط التقاء، بينما أدريانا والتي تتشابه معه في رفضها للزمن الحاضر تفضل نهايات القرن التاسع عشر على حاضرها.

  
وعلى عكس الأفلام الأخرى لوودي ألن، فرسالة الفيلم واضحة ويسهل استنتاجها لدرجة أن أي متفرج نام وسط الأحداث سيفهمها، نادرا ما استعمل وودي هذا الأسلوب خصوصا أن منتصف الليل في باريس فيلم نخبوي لن يتذوق قيمته سوى من له دراية بأسماء المثقفين الذين يظهرون، على الأقل لفهم بعض النكت ووضعها في السياق. ينتهي الفيلم بحقيقة عدمية على غرار باقي أفلام وودي وهي كالآتي: الحنين مجرد وهم والحاضر غير مُرضٍ، لأن الحياة ككل غير مُرضية.
     

   

النوستالجيا.. جيدة أم سيئة؟

"لو أن ما فعلته بالأمس يبدو عظيما، فهذا يعني أنك لم تفعل شيئا اليوم"


(لو هولتز)

لتلك الصور التي نراها في أفلام الستينات والسبعينات عن الحياة الراقية والذوق الرفيع في الأدب والفنون تأثير كبير حول فكرتنا عن الماضي، لكننا لا نتساءل هل كان ذلك الزمان فعلا جميلا أم أنها مجرد صور نظيفة خدعتنا بها الأفلام. في الواقع يصعب الإجابة عن هذا السؤال، فالشعور بالنوستالجيا حالة تتلبسنا ونرفض بها واقعنا حينما نفشل في مواكبته أو حينما نفقد شخصا عزيزا فتصبح عثرة أمام تقدمنا وآداة لرفض الحاضر، لكن في المقابل تعطينا النوستالجيا دفعة نحو المستقبل وتحسن من حالتنا النفسية وتزيد رغبتنا في التواصل مع ناس ارتبطوا بماضينا كأصدقاء الطفولة والأهل.

  
المنطق يفرض علينا العيش الآن وهنا، لأن هذا هو أكثر توقيت ننتمي له.. شئنا أم أبينا فإننا الأبناء الشرعيين لحاضرنا، ومثلما لا يستطيع جيل في الفيلم أن يتخيل حياته دون مخدر عند طبيب الأسنان، فيجب علينا تقبل فكرة الحاضر فمن يدري.. ربما حاضرنا ماض يحن له شخص ما من المستقبل، فيتمنى العيش في فترة ميسي ورونالدو ودان براون وستيفن هوكينغ.. وفترة قد يحكي فيها بنوع من الحنين عن هواتف لم تكن تحتوي سوى على ثلاث كاميرات ودقة 30 ميغابسكل فقط.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.