شعار قسم مدونات

لغة الطفل.. هل من سبيل إلى فهمها؟

blogs أمومة، طفلة

للأطفال -ولا سيما حديثي الولادة منهم- لغة خاصة، لا تختلف ولا تتباين، وإن اختلفت الأرض التي تقلهم أو السماء التي تظلهم، إنها اللغة التي لم تعرف الحياة غيرها على مر العصور، والتي لا يحسن الطفل سواها. فهو ليس بالعالم الغامض المغلق، ولا هو بالمعادلة المعقدة التي يصعب فهمها أو التعامل معها، إنه فقط حياة جديدة برزت إلى الوجود وفي يقين فطرتها أن كل ما حولها مهيأ لاستقبالها، وللترحيب بها، وللفهم عنها.. وهي فطرة دقيقة الدلالة صادقة التصور.. فما من بيت يستقبل مولودا جديدا إلا وتكون لعبة لهذا الاستقبال في أعلى درجاتها وأكثرها صدقا وحرارة..

ومع كل مرة تنطلق فيها الصيحة الأولى في البيت أو في غرفة الولادة تبدأ، أو تتجدد، محاولات جادة لفهم هذا الضيف الجديد، والتخاطب معه، ومساعدته على تجاوز معاناة النقلة بين عالم الرحم وعالم النور والهواء، وإنها لمعاناة كبيرة كبر ما بين هذين العالمين من اختلاف وتباين. ولكي يكون فهم المولود الجديد أمرا ميسرا لابد من التأكيد على أن لكل طفل فرديته وخصوصيته، ونوشك أن نقول شخصيته وإنهم جميعا قادرون بدرجة ما على إيصال رغباتهم إلينا، وعلى الرغم من أن رغباتهم هذه أو متطلباتهم تبدو شديدة التواضع إلا أنها على أي حال ليست مجرد أكل والنوم..

إنهم حين يتطلعون إلينا بأعين مفتوحة ونظرات فضولية يدعوننا إلى التجاوب معهم والفهم عنهم، على أننا مدعوون في كل الأحوال إلى التمييز بين طفل هادىء بطبعه، يأكل وينام بنظام يلفت الإنتباه، ويبدي علائم الرضا والسعادة، وبين طفل آخر لا يستقر على حال، يبدو وكأنه يواجه صعوبة ما في التأقلم مع الحياة الجديدة، فهو دائم الضجر والبكاء.. فإن مثل هذا الطفل يتطلب منا المزيد من الاهتمام والمراقبة بغية التوصل إلى بواعث هذا السلوك ومن ثم معالجته واحتوائه.

ماذا يقول الطفل لنا؟
من الخطأ الفادح الظن بأن الاستجابة لبكاء الطفل تسيء إلى أخلاقه، وتجعله يعتمد على هذه الوسيلة لتحقيق رغباته، فقد سقطت هذه النظرية في علم نفس الطفل الحديث

إن الأطفال حديثي الولادة ينتظرون منا أن نقوم بأعمال نيابة عنهم، ولكن يوحون إلينا دائما بما يريدون.. وإن الأم تستطيع بمراقبة طفلها باستمرار وبالانتباه إلى حركاته وتعبيرات وجهه، تستطيع أن تعرف كم من التنبيه والضجيج يحتمله طفلها.. إنه قد يتسلى بهذه المؤثرات بعض الوقت ولكنه سيصل آخر الأمر إلى أن يضيق بها ويضجر منها وينادي بتعبيرات وجهه أو بحركات يديه ورأسه أن دعوني أخلد للهدوء.. وفي كثير من أحيان يكون البكاء الشديد الذي يحير الأهل ويقلق راحتهم عائدا لسبب بسيط وتافه، وهو شعور الطفل بالحاجة إلى السكينة والهدوء، وما أيسره من مطلب لو فطن الأهل وفهموا عن الطفل ما يريد.

إن الوقت الذي يكون فيه طفلك في أحسن حالات صحوه هو الوقت المثالي "لمحادثته" ومداعبته، حيث يستطيع إخبارك بأنه "مستعد" لذلك عن طريق فتحه لعينيه بشكل واسع، أو عن طريق مسكه لإصبعك. وبعد أسابيع ستكون الابتسامة الرقيقة طريقته في التعبير عن راحته وسعادته، كما ستكون "المناغاة" الوسيلة الأوضح والأفصح لمثل هذا التعبير. والبكاء أقوى وسائل التعبير عند الطفل وهو يستطيع بواسطته أن يعبر عن العديد من الحاجات أو الرغبات، كما أنه يستطيع بتغيير نمطه أو نغمته أن يعبر بدقة أكبر عما يريده بالتحديد.. فالطفل يبكي عندما يكون جائعا أو مريضا أو متألما، وهو يبكي حينما يشعر بالحاجة إلى تبديل ملابسه، أو حين يشكو من الضجر والوحدة..

ومن الخطأ الفادح الظن بأن الاستجابة لبكاء الطفل تسيء إلى أخلاقه، وتجعله يعتمد على هذه الوسيلة لتحقيق رغباته، فقد سقطت هذه النظرية في علم نفس الطفل الحديث وحلت محلها النظرية التي تقول بأن البكاء لغة، وأن الإصغاء إليها أفضل من الإعراض عنها والإضراب عن تفهمها ففي ذلك إضرار بالطفل الذي يعجز عن التعبير عنه، ونعجز نحن عن إدراك آثاره ومنعكساته.

تهدئة الطفل.. المطلب الأصعب

ناذرا ما تكون هناك ولادة حديثة لا تصاحبها شكوى متكررة من بكاء الطفل.. هذا البكاء الذي يكون في حالات كثيرة سببا لتنغيص الفرحة بالقادم العزيز الجديد، ومن المهم جدا للأم -ولا سيما تلك التي تمر بتجربة الأمومة لأول مرة- أن تعلم أن بكاء الطفل ليس ذنبا من ذنوبها، وأنه لا يحدث بسبب تقصير منها أو جهل بأسلوب التعامل مع طفلها الحديث الولادة، وبالتالي ألا تسمح لفشلها في تهدئته أن يؤثر على نفسيتها أو أن يسلبها راحتها وسعادتها، ولتعلم أن بكاء الطفل يشكل القاسم المشترك الأعظم -بلغة الرياضيات- لملايين الأمهات في العالم.. عليها فقط أن تحاول.. وستنجح بقدر نجاحها في فهم لغة الطفل، وبقدر اجتهادها في النفاذ إلى عالمه الصغير المغلق.

ولنلاحظ أن الطفل لا ينفجر باكيا إلا بعد أن تعجز وسائله الخاصة عن تهدئة نفسه بنفسه، إنه يحاول أولا تعديل وضعيته في السرير عن طريق تحريك الأرجل والأيادي والرأس، كما يعمد بشيء قريب منه كطرف السرير أو الغطاء، ثم هو يحاول أن يهتدي إلى إصبع أو أكثر من أصابع يده فيرفعها إلى فمه، ويبدأ عملية مص يمكن عدها الوسيلة الأكثر شيوعا في مجال التهدئة الذاتية لدى الأطفال. وقد ذهب بعضهم إلى أن هذه الوسيلة عملية فطرية أُرشِد الطفل إليها لتنمية عضلات وجهه، وقد يبدو في هذا القول قدر من الحق غير قليل.

إذا لم تفلح وسائل التهدئة الذاتية في إسكات الطفل، وتأكدنا من أنه لا يشكو من جوع أو بلل، وأن ملابسه مربحة له، فقد يكون كل ما يحتاجه، وضعية مريحة، وجو هادىء وفسحة قصيرة في الهواء الطلق، وفي أحيان كثيرة تنزع نفسه إلى سماع شيء من الدندنات والترنيمات ليلفتنا ببراءته المحببة إلى أنه.. أصغر موسيقار في البيت.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.