لم أجد في صفحات كتب التاريخ ولا في كلِّ القصص التي سمعتها، أن حربًا تركت وراءها ظلمًا وخسائر ومآسٍ عظيمة، مثل حرب العراق عام 2003 والتي أُريد للعراق بها أن يتحوّل إلى أرض معارك وصراعات وتجارب ومنفىً لإرهابيي العالم، وما تبعها من خرابٍ نعيشه إلى اليوم وربّما لأجلٍ غير معلوم، حتّى تنوّعت وتعدّدت التبعات التي فتكت بالعراق والعراقيين، بالإضافة لما خلّفته العقود الأربعة التي سبقت 2003 والتي حكم فيها البعثيون العراقَ حكمًا جائرًا ظالماً، وقتلوا عشرات الآلاف من العراقيين وشرّدوا الآلاف، وأسّسوا لأكبر مرحلة فوضى يمر بها العراق، ونالوا جائزة التميّز بإنشاء كبريات المقابر الجماعية في العالم، وكانت النتيجة أن ساد الفقر والأمراض وتفشّت الحالات الغريبة.
ليس غريبا أن ترى أو تسمع أنَّ هناك من يبيع أعضاءه التناسلية في العراق وعلى مرأى ومسمع العامة، لأن الحالات التي سبق وأن حصلت في العراق في مجال المتاجرة بالأعضاء البشرية، بعضها لا يمكن أن يُصدّق، وبعضها الآخر يبدو هو الجنون بعينه، وكلها تَسبّب بها الفقر والجوع، بل إن هناك آباءٌ وأمهات وصل بهم الأمر أن يبيعوا أطفالهم بثمنٍ بخس، لكي يعيلوا بقية أفراد أسرتهم، ولا أتخيل سببًا يدفع المرء أن يتخلّى عن أعز شيء يملكه غير الجوع، فهل أن بيع عضو واحد من شخص أهون من بيع الشخص كله؟ بالطبع لا وبكل المقاييس، لذا كان متوقعًا أن تأخذ تجارة الأعضاء البشرية في العراق منحىً جديدا قد لا يكون موجودًا حتى في أسوأ الدول أمانًا، وهو الذي تغلّبت فيه على تجارة البشر بحد ذاتها، والتي بدورها أخذت لها مكانةً لا بأس بها في العراق، ودليلُها الحي الذي نشهده الآن، هو ثلاثة آلاف أيزيدية واللاتي لا يُعرف عنهن خبر.
مما شدّ انتباهي أيضا أن أحدًا ما وربّما جهةً معيّنة نشرت مقالا عن أن الشركة المسؤولة عن شراء هذه الأعضاء هي شركة عالمية تُدعى "كولاسبير"، وهي متخصصة بهذه الأعمال |
أُثيرت في الأيام الأخيرة أخبار حول حالات لبيع أجزاء من الأعضاء التناسلية للذكور في مناطق عراقية، وبالتحديد في إقليم كردستان، حيث سجّل مراقبون ومؤسسات إعلامية بوادرَ مخيفة لظاهرة انتشار بيع "الخصيتين" وتحويلها إلى أشخاصٍ آخرين، يعانون من العقم أو الضعف الجنسي، مقابل مبالغ مالية كبيرة تُدفع للبائع، إذ يصل ثمن الخصية الواحد سبعين ألف دولار أمريكي، وكل ذلك يتمُّ في مستشفيات خاصّة، بالتعاون مع أطبّاء متخصصين بمثل هذه الحالات، وعبر سماسرة يبدو أنهم امتهنوا هذا العمل، وكانت تقارير سابقة قد تحدثت عن مثل هذه النوع من المتاجرة بالأعضاء البشرية في محافظات عراقية، لكنها لم تأتِ بتفاصيل توضح ملامح هذه الظاهرة، وهو أمرٌ بديهي في وقتٍ لم تظهر تصريحات حوله من وزارة الصّحة أو وزارة الدّاخلية أو منظمات حقوق الإنسان أو أية جهات رسمية أخرى.
حين أجريتُ بحثًا دقيقًا حول خلفيات هذا الموضوع في الإنترنت، لم أجد مصادر موثوقة كثيرة تتحدث حوله، ولا إحصائيات دقيقة تبيِّن نسبةً يُعتمد عليها، عدا التحقيق الاستقصائي الذي ظهر في كردستان قبل أيام قليلة، والذي فجّر شرارة هذه الموضوع، ودقَّ جرس الإنذار، وكتابات وأخبار مختلفة هنا وهناك، لكنني وجدتُ منشورات وكلمات ومقاطع فيديو كثيرة عنه، بعضها تبدو فيه الجدّية وأخرى يبرز عليها طابع السّخرية، الذي أثارني في البحث ما وجدته من ردود فعل من الأشخاص الذين تفاعلوا مع هذه المنشورات أو الفيديوهات التي نُشرت على يوتيوب، فإن ما نسبته 90 بالمئة من الذين علّقوا كانوا قد أبدوا رغبتهم الصادقة وبشكلٍ صريح لبيع هذا الجزء مقابل ثمن بسيط قد لا يتعدى العشرة آلاف دولار أمريكي، وبعضهم أسهب يشرح في سطور ٍكثيرة حالته المادية السيئة وظرفه المعيشي وحياته، والأمور التي تدفعه لبيع أعضاءه، ومنهم من ترك رقم هاتفه وعنوانه، ومنهم من كتب متوسلا أنه يرغب بهذه العملية بشكلٍ ضروري لحاجته الماسّة للمال، والغريب أن نسبةً كبيرة منهم عراقيون.
ومما شدّ انتباهي أيضا أن أحدًا ما وربّما جهةً معيّنة نشرت مقالا عن أن الشركة المسؤولة عن شراء هذه الأعضاء هي شركة عالمية تُدعى "كولاسبير"، وهي متخصصة بهذه الأعمال وهي التي ستتكفل بكل هذه الإجراءات وتعطي ضمانا حقيقيا للبائع، وحين بحثتُ عن هذه الشركة لم أجد شيئًا يُذكر عنها، لا شيء رسمي ولا شيء حقيقي، لكن الأكثر غرابة أن مئات الأشخاص قاموا بالبحث عن هذه الشركة عبر محركات البحث ولعشرات المرات بأشكال مختلفة، ربّما بهدف الوصول إلى معلومات تتيح لهم معرفة المزيد من التفاصيل، أو للتواصل مع الشركة حول عملية البيع. لكن هذه الملامح إن كانت تدل على شيء فإنه لن يكون سوى أن هناك أشخاص كثر في العراق على استعداد للتعامل والتفاوض على بيع هذا الجزء من العضو البشري المهم في تكوين الإنسان وفي استمرارية جنسه وطبيعته، وهذا مؤشرٌ لا يُبشّر بخير في ظل الظروف الراهنة التي يعيشها العراق، الخارج لتوه من حروب عسكرية متتالية، وأخرى غير عسكرية لا يزال يكافح في محاربتها، قد يكون أشدها الفقر، وليس أهونها انتشار مجاميع كبيرة من الفاسدين الذين يستولون على مفاصل الدولة، ممثّلين بذلك الدولة العميقة التي تُدير العراق.
أعتقد أن الخطر الذي تشكّله هذه الظاهرة هو خطر كبير جدا، ويهدد نسبةً كبيرة من الأشخاص الذين تحكمهم غائلة الفقر وجلّهم من فئة الشباب، فبناءً على المعطيات السابقة التي تتوفر عن حالات كثيرة سُجّلت في العراق لأشخاصٍ قاموا ببيع "الكلى"، فإن عددًا كبيرًا منهم قاموا ببيعها لنفس الظروف التي يتحدّث عنها الأشخاص الراغبون ببيع "الخصيتين"، وهي التي تنحصر مسبباتُها تحت إطار الفقر والجوع، وكذلك فإن منهم من قاموا بهذه العمليات دون علم ذويهم، ودون سابق تفكير بالمخاطر أو الأذى الذي يمكن أن يلحق بهم مستقبلا، تحت وطأة الحاجة للمال، فبمثل هذه الظروف يُعدُّ هذا الاتجاه خطير، في وقتٍ تؤكد فيه مراجع طبية أن نسبة الضرر التي يمكن أن تلحق بالبائع واردة بشكل كبير بمرور الأيام، وقد تصل إلى العجز الجنسي مرورا بمراحل متعددة، في حين أن رجال دين تحدثوا أن الشرع يحرّم مثل هذه العمليات بالمطلق، رغم أن بعض الدول تسمح بمثل هذه العمليات في حدودٍ معيّنة.
بناءً على ما سبق، أعتقد أن الهمَّ الذي ينبغي أن يشغل المنظمات الدّولية والمحلّية والمؤسسات الحكومية المعنية بحقوق الإنسان في العراق، والمدافعين عن حقوق الإنسان، ورجال الدّين، والمؤثرين في المجتمع، هو منع تفشي هذه الظاهرة الغريبة والمخيفة، التي إذا ما أُتيح لها أن تتّسع فإنها تنذر بحلول كارثةٍ لا تقل خطورتها عن الإرهاب، لأنها تتلاعب بأرواح وأجساد البشر، وتستغل حاجتهم وضعفهم، فالواجبُ أن تكون هناك ردود فعل صارمة تجاه من يروّج أو يتعامل مع هذه الحالات بشكلٍ جِدّي وحازم.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.