شعار قسم مدونات

كيف انتصر السلطان في معركة "كسب القلوب"؟

blogs أردوغان

لم يكن أحد يتوقع قبل عشرة أعوام من الآن أن تحتل تركيا تلك المكانة البارزة في قلوب الشعوب العربية وضمائرها. فالدولة التي كانت تدور في فلك العلمانية الصرفة وتعوم على بحر من الخلافات مع جيرانها العرب بدت وكأنها في مرحلة تغير جذري واقتراب تدريجي من محيطها الإقليمي والعربي، مخلفة وراءها عقوداً من التحالف مع الغرب إبان الحرب العالمية الأولى وسقوط الدولة العثمانية.

وعلى الرغم من أن تغير الظروف الجيوسياسية في منطقة الشرق الأوسط كان له أثر في إعادة تموضع الدولة التركية في الإقليم، إلا أن صعود رجب طيب أردوغان سلم السياسة التركية كان العامل الحاسم بلا شك في إعادة رسم ملامح تركيا وصياغة دورها في المنطقة. فالرجل صاحب الشخصية الكارزماتية بدا وكأنه يقود انقلابا ناعماً لا على تغول العلمانية وسطوة الجيش في بلاده فحسب، بل على سياسات أسلافه الخارجية التي وسمت الجمهورية التركية لعقود طويلة. انتهج أردوغان -ذو التوجهات الإسلامية- منذ سنوات حكمه الأولى سياسة تقوم على التقارب مع الدول العربية والإسلامية، متبنياً مبدأ "صفر مشاكل" مع محيطه الإقليمي، مستنداً في ذلك على إرث عثماني متغلغل في تاريخ شعوب المنطقة وحضارتها، في وقت كان فيه الرجل يظهر فتوراً اتجاه الغرب واستعداءاً ظاهراً للدولة العبرية.

كانت توجهات أردوغان حيال مصر وأحداثها متسقة مع ثوابته في نصرة المظلومين والانحياز للشعوب في مواجهة أنظمتها المستبدة. وبدا أن مواقفه الرافضة لانقلاب السيسي على الشرعية المنتخبة والاعتراف به قد أثلجت صدور الكثيرين من أبناء الشعب المصري

أعادت سياسات أردوغان بلاده إلى الساحتين العربية والإسلامية إذاً، وأصبحت تركيا لاعباً مهماً في المنطقة ورقماً صعباً في قضاياها الساخنة. استطاع الرجل ومن خلال مزاوجته بين السياسة والأخلاق من جهة، وبين المصالح والثوابت من جهة أخرى، أن يقف موقف المدافع عن حقوق الشعوب والمنتصر لقضاياها العادلة. موقف قابلته شعوب المنطقة بكثير من الإعجاب بالرجل الذي كان في خضم كثير من الأحداث ينطق بلسان حالها ويعبر عن ما يختلج في صدورها ولا سيما خلال ثورات الربيع العربي التي كانت بوابة عبور أردوغان أو السلطان – كما يحلو للبعض تسميته- إلى قلوب الشعوب وضمائرها. 

لم يخف أردوغان إيمانه بثورات الربيع العربي ولا بمطالب الثائرين على أنظمتهم المستبدة، بل جاهر بانحيازه للشعوب على حساب الحكام مقدماً في ذلك مبادئ الإنسانية على مصالح السياسة، في الوقت الذي انقسمت فيه كثير من دول الشرق والغرب بين صامتة أو مترددة أو حتى متوجسة من الربيع العربي ومآلاته. وفي مشهد أظهر فيه أردوغان انسجاماً بين أقواله وأفعاله، فتحت أبواب تركيا لملايين السوريين الفارين من ويلات القتل والتدمير ليعيشوا بكرامة في أمن وأمان، متمتعين بحقوقهم التي لم يكتب لهم أن ينالوها حتى في وطنهم، مستظلين بعطف السلطان ورعايته الذي ما انفك يذكرهم بأنهم المهاجرون وأن الأتراك أنصار لهم. لم تقتصر رعاية أردوغان وحكومته على السوريين المقيمين في تركيا فحسب، بل امتدت لتطال مناطق في الشمال السوري في سابقة تفردت بها تركيا كونها الدولة الوحيدة من بين الدول الفاعلة في الملف السوري التي استطاعت حماية السوريين ودعمهم داخل حدود وطنهم. فبالتزامن مع تطهير مساحات واسعة من الشمال السوري من المليشيات الكردية الانفصالية وفلول تنظيم الدولة الإسلامية، وجه أردوغان حكومته لتأمين الدعم المعيشي والصحي والتعليمي لسكان تلك المناطق. ومع استتباب الأمن وتوافر الخدمات، بدت مدن كجرابلس والراعي والباب وعفرين أفضل حالاً من مثيلاتها التي تخضع لسيطرة النظام السوري. 

كانت توجهات أردوغان حيال مصر وأحداثها متسقة مع ثوابته في نصرة المظلومين والانحياز للشعوب في مواجهة أنظمتها المستبدة. وبدا أن مواقفه الرافضة لانقلاب السيسي على الشرعية المنتخبة والاعتراف به قد أثلجت صدور الكثيرين من أبناء الشعب المصري وعرت بالمقابل مواقف دول عربية وغربية لم تجد غضاضة في دعم وتأييد من لطخت أيديه بدماء شعبه. مشهد مليئ بالمتناقضات التي ما كان ليعبر عنها أكثر من دموع السلطان التي ذرفها حسرة وألماً على من قتلوا بدم بارد في النهضة ورابعة، في الوقت الذي كانت فيه دول الغرب المتشدقة بحقوق الإنسان تستقبل القاتل استقبال الفاتحين. 

حصد أردوغان المزيد من تقدير وإعجاب الشعوب العربية والإسلامية من مواقف اتخذها حيال قضايا لا تقل أهمية عن قضتي سوريا ومصر. فقد بدا الرجل متمسكاً بعدالة القضية الفلسطينية وداعماً لحقوق أهلها ومنتقداً لسياسات الحكومة الإسرائيلية إلى حد وصفها بالإجرام، في الوقت الذي أظهر الأخوة والأشقاء تخلياً عن ما كان يوماً "قضيتهم المركزية" وتهافتاً للتطبيع مع من كان بالأمس القريب "عدواً" لهم. وقف أردوغان أيضاً إلى جانب قطر وشعبها في الحصار الجائر الذي فرضه عليها "الأشقاء"، وصدح بالحق نصرة لأقليتي الروهينجيا والأيغور في مواجهة عمليات التطهير العرقي في ظل صمت دولي مطبق، وامتنع عن الانخراط الدموي في حرب اليمن، ورفض قبول رشوة على هيئة دعم اقتصادي عرضتها السعودية عليه لتمرير جريمة اغتيال جمال خاشقجي. 

قوبلت مواقف أردوغان بكثير من التقدير والإعجاب من قبل الشعوب العربية والإسلامية في مشارق الأرص ومغاربها. وبدا أن "السلطان" قد كسب "قلوبها" التي طالما كانت عصية على حكامها الظالمين وزعمائها المستبدين. قلوب كانت تلهج بالدعاء نصرة لأردوغان في كل استحقاق انتخابي يخوضه، وخلال كل أزمة تعصف ببلاده ولسان حالها يقول: إن لم ننتصر لمن نصرنا.. فلمن ننتصر؟ 

"لا تستوحش طريق الحق لقلة سالكيه، ولا تستحبب سبيل الباطل لكثرة عابريه". ربما لخصت تلك المقولة نهج أردوغان الذي اختار أن يغرد بالحق وحيداً خارج السرب الذي ينعق بالباطل، منتصراً للمظلومين، ومدافعاً عن المقهورين، وحاملاً لهموم العرب والمسلمين، فدانت لسلطان القلوب ملايينها، مثلما دانت لأجداده من بني عثمان الأرض وأصقاعها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.