شعار قسم مدونات

هكذا هو الواقع الذي يعيشه جيل الثمانينات

blogs تفكير

قرابة أربع عقود مضت على جيل الثمانينات. الجيل الذي عاش الفترة ما بين الهدوء والعاصفة التي لحقت بالعالم، الجيل الذي شهد على بداية ارتياب العالم وجنونه وتحوله من عالم شبه إنساني يحاول لم شتات نفسه بعد حروب طاحنة أودت بحياة الملايين إلى آلة كبيرة تديرها آلات صغيرة من البشر تخلو من الانسانية مبرهنين بالعلم المستنير على انتمائهم لفئة المادة.

 

المعادلة الفكرية الصعبة بين محاولاته التمسك بالقيم ومداعبة مشاعره بالنوستالجيا بين الحين والآخر ورغبته في مواكبة متطلبات العصر التي تأخذه إلى الركن البعيد من العالم، هو الجيل الذي بالكاد استطاع أن يكتب رسالة ويبعثها بالبريد وينتظر ساعي البريد ليأتي له بالرد قبل أن تكون كل كتاباته ورسائله بعد ذلك بوقت قصير جدا كمعجزة بكبسة زر.

 

هو الجيل الذي كان يزور المكتبات ولديه اشتراك في مكتبة الجامعة، يحضر حلقات الأدب والفن ولديه مكتبة للمجلات والصحف والكتب الأسبوعية التي تصدرها دور النشر، ومكتبة أفلام الفيديو مع أجهزة عرض الفيديو التي تجعله متألقا وسابقا لأقرانه بخطوة إلى الرفاهية والثقافة، وهو الذي قد يجمع الأخبار عن علم الحواسيب وقدراتها وغزوها للعالم على يد ميكروسوفت، ربما سيقرأ عنها الكثير، سيبدأ أيضا في تعلم لغتها عن طريق دورات تدريبية تشعره كم هو مميز ومواكب للتطور ليجد بعد هنيهة مصباح جوجل السحري يخرج منه مارد يجب على كل تساؤلاته – التي خطرت وستخطر على ذهنه يوما – كتابة وصورة وصوتا.

 

الكثير منهم لم يحظى بزواج سعيد بسبب تأخر سن الزواج وفق آخر الإحصائيات وما كشفته الدراسات الاجتماعية الحديثة أنه لم تتح لهم فرصة تكوين أسرة بسبب صعوبة ايجاد شريك مناسب أو بسبب صعوبة الحياة المادية

هو الجيل الذي استطاع تكوين الصداقات الذهبية، وعاش في مجتمع انساني حقيقي يقدر روح العائلة ويفهم قيمة الجيران ويجتمع مع أسرته على فيلم أو برنامج في التلفاز قبل انقطاع الإرسال اليومي لينذر بانتهاء السهرة والخلود للنوم.. وهو أيضا على الجانب الاخر من وُلدت على يده ما يسمى بمنصات التواصل الاجتماعي والأجهزة اللوحية الداعمة لها وكانت له الفرصة في المساهمة في إنشائها وتطويرها وإدمانها أيضا..

  

بالكاد أتذكر أنه مضى قرابة خمس عشر عام على نشأة بعض المصطلحات والعلوم الحديثة – كانت كذلك أو أنها قديمة ولكن طفت حديثا – لتصبح المكون الرئيسي لقاموس ذلك الجيل، المصلحات السياسية التي خلقت التمييز والعنصرية بين البشر وصنعت الآلهة الذين يمتلكون القوة والسلطة والمال.. أو المصطلحات الاجتماعية التي تبرر كل سلوك دنيء وتحط من قدر القيم والأخلاق.. ومصطلحات أخرى في نفخ الذات ال EGO وتعميق قيمة الأنانية والفردية وتبني الوصولية ومبدأ الغاية تبرر الوسيلة تحت غطاء النجاح والتميز.

 

وهو الجيل الذي قامت على أكتافه ثورات العالم فثار لوطنه وأرضه وعرضه كما خرج للتعبير عن طموحاته ورغبته في حياة كريمة يكون له دورا محوريا فيها بعلمه وثقافته وكده وتعبه.. ثم تفاجئ بعد ذلك بما أفرزته تلك الثورات – بعد امتطاءها من المتسلقين والانتهازيين – من التصنيف والتمييز العنصري وعدم تقبل الآخر وتبني الفكر الأحادي وتفشي الطبقية، وتوحش " الإعلام " آلة التدليس والترويج للفساد والمفسدين التي تبيعه الأكاذيب حد الفُحش وتضحك من إنسانيته، وتستخف بشرفه وتشكك في سلامة قواه العقلية.

 

تكمن معاناة هذا الجيل الاجتماعية في عدة نقاط :

– هم الذين أعمارهم ما بين الثلاثون والأربعون عام رجال ونساء ما زالوا يبحثون عن الاستقرار ولا يقفون على أرض صلبة، يهاجرون حول العالم رغبة منهم في توفير حياة كريمة من خلال عمل أو ايجاد بيئة خصبة تتبنى ابداعاتهم وتدعم خبراتهم.

 

– الكثير منهم لم يحظى بزواج سعيد بسبب تأخر سن الزواج وفق آخر الإحصائيات وما كشفته الدراسات الاجتماعية الحديثة أنه لم تتح لهم فرصة تكوين أسرة بسبب صعوبة ايجاد شريك مناسب أو بسبب صعوبة الحياة المادية التي أصبحت عائقا حقيقيا أمام متطلبات الزواج القهرية وتغير الأولويات والمقاييس الفكرية.

 

– من استطاع منهم تكوين أسرة وإنجاب الأبناء يقضي عمره ووقته في الكد والتعب ليوفر لهم حياة كريمة تتضمن التعليم الجيد والصحة والمأكل والملبس والمسكن، كما يواجه صعوبة في تلبية متطلباتهم وتطلعاتهم ذات السقف المرتفع كطبيعة حياتهم المتسارعة، دائما يريدون كل جديد ويملون من كل ما هو ممكن ومتاح. بيد أن تلك الحياة المتسارعة – التي تحيطها التكنولوجيا من كل جانب ويؤثر عليها الانفتاح الثقافي – تجعل من الصعب بمكان السيطرة على ما يشاهده الأبناء وما يسمعونه ويؤثر فيهم ويساهم في بناء شخصياتهم.ففي نفس الوقت الذي يبدأ فيه آبائهم في عمر الثلاثون والأربعون بالتعرف على التكنولوجيا واستخدام منصات التواصل الاجتماعي والتعامل مع الأجهزة اللوحية يجدون أبنائهم ذوي العامين ينافسونهم بالتطلعات فتصبح التربية متطلبا مرهقا يحتاج لوقت وجهد وأدوات دائما متجددة ومتغيره بقدر تغير العالم من حولهم. وهنا يبدأ الصراع الجلل الذي يواجهه الآباء عامة ومن هم ينتمون إلى جيل الثمانينات خاصة لعدم قدرتهم على التوفيق بين العمل والكد من أجل حياة كريمة وتوفير الوقت للأسرة والتربية.

  

ذلك الجيل الذي بقي في داخله حفنة من القيم والمبادئ مازال يذكرها وتلوح في فكره دوما فهو الذي عاش بين التاريخ والجغرافيا وتتلمذ على يد المعلمين الأجلاء ومازال يذكرهم في قلبه وعقله

– الصعوبات التي يواجهها هذا الجيل عند تأسيس عمل خاص للخروج من دائرة الوظيفة والاتجاه للإبداع والتطلع للحرية المالية فيجد نفسه أمام ارتباك الاقتصاد وهيمنة الرأسمالية واستحواذ فئة معينة على القوة والسلطة والمال وانقسام العالم بين من لا يملكون شيئا ومن يملكون كل شيء.

 

تطلعاته وفرصه في التقدم..

عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أربع من السعادة: المرأة الصالحة، والمسكن الواسع، والجار الصالح، والمركب الهنيء، وأربع من الشقاء: الجار السوء، والمرأة السوء، والمسكن الضيق، والمركب السوء) وصححه الألباني في "الصحيحة" (282).

 

مثله كمثل غيره – يتطلع إلى أن يعم السلام العالم ليجد مكانا لأحلامه البسيطة في حياة متوازنة هادئة نوع ما يتجنب فيها الصراع من أجل حقوقه الانسانية البسيطة التي تتلخص في الحصول على حقه في التوزيع الرأس مالي، والعدالة الانسانية التي تمنحه عيشة كريمة تلبي متطلباته الطبيعية من مأكل وملبس ومسكن وتحترم ايقاعه الحيوي وتمنحه المكانة الاجتماعية التي يريدها ويستحقها في العمل والمعرفة والعلم، والحرية التي تحفظ حقه في التعبير عن منغصاته وتتيح له فرصة اختيار ما يناسبه ويتماشى مع فكره ورؤيته، الأمان حيث يمكنه أن يأمن على حياته ماديا ونفسيا واجتماعيا وصحيا وعقليا وفكريا ليساهم في بناء الحضارة وتكون له بصمة ثقافية يتحدث عنها التاريخ فلا يغفل انجازاته وما سيورثه لأجيال قادمة. محاولات هذا الجيل في التشبث للوصول لمعادلة السعادة والرضا ونشر الإيجابية والتفاؤل بالمستقبل، مازال هذا الجيل يؤمن بأنه من المحن تولد المنح وأنه لا يوجد باب بدون مفتاح.

 

"وأن الزهرة التي تتبع الشمس تفعل ذلك حتى في اليوم المليء بالغيوم"

-روبرت ليجتون

 

ذلك الجيل الذي بقي في داخله حفنة من القيم والمبادئ مازال يذكرها وتلوح في فكره دوما فهو الذي عاش بين التاريخ والجغرافيا وتتلمذ على يد المعلمين الأجلاء ومازال يذكرهم في قلبه وعقله.. ذلك الجيل الذي درس الفكر القديم والحديث في آن واحد وشهد ولادة عالم جديد يحبه ويكرهه في نفس الوقت ولكن مازال يستطيع أن ينتقل به إلى ما هو أفضل، مازال يحذونا الأمل في مستقبل مشرق ومازلنا نؤمن بقدراتنا ولا نتخلى عن سعينا الدوؤب للبحث عن السعادة والرضا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.