استلم السلطة في عمر عشريني بعد مسيرة فشل الدراسة الثانوية. قد يكون الشغب سببا في نقلته إلى معاهد سبها في الجنوب الليبي شبه الصحراوي حيث بعد الأهل وكثبان رمال ملتوية كالثعبان تثيرها رياح الغرب الجافة.
انتبذ قربي نصفه فوق الأرض والنصف الأخر تحتها ليعكس ربما نمط شظف العيش بين جنات الخلد في سماء عليين وبين سافل الأرض يعبق بشذى الثرى مذكرا سكانه التعساء بحياة القبور بعد فناء الكون عله يخفض من احتقان الغضب لانعدام عدالة بعد مجي استقلال. تقاسم المحل مع رفاق درب طويل وكالح سرعان ما قطعته عودة إلى مدينة البحر مصراتة لتحظ عينه الصغيرة دبيب النمل لتجار أثرياء امتهنوا التوريد عبر البحار وإغراق الأسواق الليبية الحالمة بشتى منتجات الحضارة الغربية التي مزجتها بخبز ودماء شعوب العالم الثالث المستضعفة والمستعمرة لعدة سنين.
ربما من هنا بدأت أحلام المراهق تراكم الظلم وتشحذ فيه غريزة الانتقام. أكمل بضع السنين هناك ثم التحق بالمدارس الحربية حتى يصقل انضباطه ويفهم سحر معاني الوطن. كانت الحقبة الزمنية حبلى بالأحداث والاديولوجيات والرغبة في التحرر من القديم وتشييد أوطان الشعوب بعد افتكاكها من براثن الاحتلال الايطالي وتسليمها لملك طالما ذكره بإمبراطورية الرجل المريض في عهد الوهن والتخلف والانحطاط. تخرج ضابطا عسكريا ثم سرعان ما التحق بأكاديمية عسكرية بريطانية لاستكمال تربصات هامة في مسيرة عمله المستقبلي.
اعتنق الضابط الشاب القومية العربية الناصرية وكانت له جولات في مناصرة القضايا العادلة في الأمة العربية حيث شد الرحال ورفاق دربه فكونوا ثالوثا أتى قادما مشيا على الأقدام للالتحام بصفوف الثوار في أحداث معركة الجلاء ببنزرت التونسية مطلع الستينات من القرن العشرين يحدوه عنفوان الشباب وتحركت في دمائه النخوة العربية فهب لمناصرة الثوار زمن الراحل بورقيبة.
في الفاتح من شهر سبتمبر سنة 1969 قاد انقلابا عسكريا ابيض مع رفاقه سمي ثورة الضباط الأحرار الليبيين أسوة بملهمه جمال عبد الناصر. كان مشروع الانقلاب حسب اتفاقه مع رفاقه الإطاحة بالنظام الملكي – الملك إدريس السنوسي- وتسليم السلطة للمدنيين لتشييد أركان الجمهورية العادلة. جمهورية كل الليبيين أسوة بتونس والجزائر الجارتين والشقيقتين. عمت الأفراح والاحتفالات في الشوارع الليبية التي كان الضابط الشاب يجوبها على حصانه وسط حمى الهتافات والزغاريد. أعجب الشاب البدوي بما شاهده وفتحت خيالاته على استدامة الحال وأسال لعابه بريق الشهرة والسلطة.
انقضى أسبوع أول ثم ثاني وبدأت الاحتفالات تخف مظاهرها من الشوارع فأصيب الضابط الشاب بالإحباط ونسي مقولة دوام الحال من المحال، وتغيرت نحوه نظرة رفاق الانقلاب بعد أن استشعروا نية عدم الوفاء بالوعود عنده في تسليم مقاليد الدولة إلى سلطة مدنية لاستكمال شروط تقلدها المهمة الصعبة بانتخابات نزيهة تفرز الأكفاء والأقدر على تحمل وزر السلطة الجديدة، بدأت إصلاحاته بتأميم ثورة البترول ثم أعلن الزحف الجماهيري المقدس تحت شعار البيت لساكنه ليضرب القوة الرأسمالية في مقتل ويعلن الاشتراكية كنظام سياسي لتركيز العدل والمساواة في توزيع الثروة البترولية ولتكون ليبيا لكل الليبيين. ثم بدا القمع فكان الانقسام المجتمعي: نظام استبداد عسكري ومجتمع طلق بالثلاث السياسة والسياسيين. بدأت العزلة تتعمق من كثير إلى أكثر. فكان الارتياب من الشعب والخوف فانقطعت لغة الحوار.
حل الجيش كإجراء حمائي استباقي حتى يامن انقلابه وتشكلت مجموعة من الكتائب يديرها الأبناء والمقربون. أول المنتقدين للسياسة الرعناء كان رفاق دربه فهم يعرفون عنه كل الخفايا كبيرها وصغيرها. شدد عليهم الخناق ففروا إلى الخارج وصدحوا بحقائق تخدش الكرامة فكانت الملاحقات والخطط العصماء لجلبهم فمنهم من اغتيل في الخارج ومنهم من استقدم بخديعة ليذبح في الداخل مثلما الخرفان وما قصة عمر المحيشي الذي ذبحه القائد بمجرد نزوله من طائرة القاهرة -المغرب فغيرت مسارها ونزلت في بن غازي.
نسج العقيد معمر القذافي بطانته في المجتمع على شكل شبكة عنكبوت بعد ان أوصل حبل استشعارها بمؤخرته وانزوى في قصور مظلمة مشددة الحماية تصل أحيانا إلى ألاف الأمتار تحت الأرض مجهزة بالنور الكهربائي بعد ان تعرض إلى عدة محاولات اغتيال فاشلة من مقربين له ساءهم مروقه عن التعهدات وسوء أحوال البلاد. أوهم القذافي صغار العقول بأنه القائد الرمز وانه سيكتفي بدور الحكيم والفيلسوف وان شعب الجماهيرية يحكم نفسه بنفسه كأرقى شعوب العالم أما الديمقراطية فهي كبة كبرى فإنها تمثيل وكل تمثيل تدجيل. لقد حل بذلك الصراع الأبدي على السلطة في دول العالم الثالث.
حبال الكذب قصيرة وإن طال زمانها ومصير المستبدين إلى مزبلة التاريخ. إنها لعنة دماء مصلين قتلوا في الاغباش على قارعة الطريق مثل كلاب ضالة |
مأساة العقيد النفسية أنه يتصور نفسه عظيما يحكم أقلية من الشعب العربي – عدد السكان الليبيين حوالي 2 مليون إبان توليه مقاليد الحكم- حاول عديد المرات عقد اتحاد مع دولة عربية أخرى ليلبي عدد السكان فضوله إلا أن رؤساء تلك الدول كان يشتمون رائحة المكر من مبادرته التي يريد أن يدخلها دون منصب مرموق كأنه يستعجل الاتحاد أولا ويضمر الانقلاب متى استتبت له الأوضاع لاحقا. لقد أساء معاملة دول الجيران أكثر من مرة وهي في النهاية دعائم تركيز بيت العنكبوت. درب الأحزاب المعارض ساند بالمال الفاسد تخريب الأنظمة حارب بالنساء والرجال خارج حدوده إلا أن الفشل كان أبرز حصاده خلال الأربعون سنة من حكمه. لذلك أغلق أبواب الرزق على العرب الأشقاء إلا ما رحم ربك واستقدم الأفارقة وأجناس أخرى ليس رغبة في جودة الخدمات بقدر ما هو ضرب طوق العزلة على شعبه المقهور.
كانت صبيانيته الهوجاء تسمح له بتجريد العملة التونسيين والمصريين من أرزاقهم وعرق السنين وطردهم شر طردة أو تجنيدهم في معسكرات تدريب ليرسلهم لاحقا كوقود حرب لدولة مارقة على منظومة حكمه العتيد كل اختلف سياسيا مع قادة دولهم حلفاء الاستبداد. كانت أخر حملاته الأمنية المسعورة قبل اندلاع الثورة التونسية بأشهر قليلة. مطلع التسعينات عندما كانت سنين الجمر تعصف بتونس والجزائر التفت العقيد إلى شراكه العنكبوتي فوجد فيه طرائد وأفرده العدد انقض عليها بشراسة مثل الكلب المسعور ليحذف ماديا حوالي الـ 900 مضرب داخل السجن لتحسين ظروف الاعتقال فالتهمهم في أقل من ساعتين وواراهم التراب داخل أسوار المؤسسة السجينة تاركا حبل أفكار أولياءهم تمرح في كل الاتجاهات.
عندما اهتز عرش الطغيان في تونس كان لابد لبيت العنكبوت أن ينهار ما دامت إحدى دعائمه أصبحت تمور تحت صرخات أمواج هادرة من شعب قمع لعدة سنين بالنار والحديد. خرج شيخ الثوار الخالدين ليلقي دروسا في الثورية تناقضت مع كل ما كان يتبناه سنين عددا ليقنع الثائرين والاجوار بان زين العابثين لن تجدوا مثله بديلا وستندمون عن رحيله يوم لا يجدي الندم نفعا. قال المتابعين لكلمته المتلفزة أن شكل الرسالة موجه إلى ثوار تونس وفحواها لشعبه تحذيرا له قبل ان ينفلت زمام الأمور وقد دعم ذلك حالة الارتباك والانفعال التي كان عليها. نصحه المقربون أن خطابه مفتوح ولابد من شيء من الديبلوماسية لتهدئة خواطر الغاضبين فكانت له رسالة ثانية حاول أن يصلح فيها ما اقترفه في الأولى وقد فهم الشعب الليبي ما وجب عليه فعله. وكانت الإجابة 17 فيفري 2011. ولاقى العقيد حتفه بعد أن استبسل في الدفاع عن الكرسي بعد أن خرج من عباءة الفيلسوف وسقطت كل الشعارات التي حاول أن يرسخها على مدى 42 سنة في وقت وجيز.
حبال الكذب قصيرة وإن طال زمانها ومصير المستبدين إلى مزبلة التاريخ. إنها لعنة دماء مصلين قتلوا في الاغباش على قارعة الطريق مثل كلاب ضالة. أم إنها لعنة 900 مضربا عن الطعام في السجون فاحذفوا ماديا من الوجود ودفنوا في أقل من ساعتين. أم أنها لعنة أمنية نبش قبر جمال عبد الناصر وشرائه بمليارات الدولارات لتخليده كرمز في بلاده فمات بلا ضريح. أم إنها لعنة المظلومين الكادحين في دول الجوار فجاء الجزاء في الدنيا قبل الآخرة مثلما وعد رب العرش الكريم. إنها دروس وعبر يخلدها التاريخ لمن أراد ان يعتبر. نذكر القصة ليس من باب التنكيل فهو لا يجوز شرعا ولو بالكلب العقور. وإنما لأنه لا يزال بيننا كثير من أشكال معمر القذافي وربما حتى اشد سوءا منه لعلهم يعتبرون فالله يمهل ولا يهمل وعاقبة الظالم في الدنيا قبل الآخرة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.