كان لا بدّ لنا أن نقدمَ امتناننا لهذا العالم الصغير الذي نعيش فيه، والذي نَشغلُ مكاناً واضحاً منه – رغماً عنّا-. بدءاً من الأسرة الصغيرة وامتداداً للعائلة، للمدرسة والجامعة وأصدقاء كل المراحل والبيئة على اختلاف منظومتها الهيكلية. كل هذه تخلق في النفس تمكيناً أكبر لما شَغلَه العقل الباطن لنا في الصغر، تنمّيه وتزيده أو تنقصه، تُسوّي ما اعوجّ منه حسب كل ما تقتضيه كل مرحلة، أو تنبذه وتلقيه في الهباء، أو تصيّره وتُحجّمه.
كلٌّ منّا ابن بيئته، ابن أمه وأبيه، ابن فكره وثقافته، وابن دينه، شخصٌ لوعيه، والأخيرة نِتاج منظومةٍ سليمةٍ حَظيت دوماً بالتخيير لا بالتسيير، بالمشاهدة والتجربة لا بالإملاء والإقصاء، حتى لو غايرنا ألف بيئة في حياتنا سنبقى نحن، إن كنا شخص الوعي لا شخص البيئة. "وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" حتى خالق الكون خيّرنا وكان للخيار نتيجة حتمية في كل طريق نتّبع خطاه. فهل كان لزاماً على أحد أن يجعلنا نسخة منه في مذهبٍ أو فكرةٍ أو أي حِملٍ يحمله؟! بالطبع لا.
كيف لنا نحن الشباب أن نصارع كل تلك المفاهيم في ضوء مُتغيّرات مُستجدّة دوماً! وفي كل يوم تعصف العاصفة بشرخ جديد يأكل من جسد هذه الأمة، ويضعها من جديد كي تُعيد النظر بمبادئها الأساسية |
كلُّ ازدواجيةٍ في السلوك هي مرتعٌ وخيمٌ نحو هلاك المبدأ وشذوذ في الإدراك، والازدواجية أعني بها كما عبّر عنها علماء التربية والاجتماع ذاك الانحراف والبعد عن الوسطية والتوازن الحقيقي في التعامل مع الخالق والإنسان والحياة، كأن ترى الرجل يُسفّهُ الناس في بيته، ويخرج على الجمع الآخر بأنه العاقل البارّ! ولا أقصد هنا بالازدواجية التي أكد عليها محمد قطب حينما قال: إن الإنسان في حالته السوية مخلوق مزدوج الصفات فلا هو مَلَكَ ولا هو شيطان، وإن كان في بعض الحالات يصل سلوكه إلى درجة الشيطان وفي بعض حالاته يسمو بروحه إلى درجة المَلَكَ، وفي حالاته الطبيعية بين هذا وذاك، مشتمل على الخير كما هو مشتمل على الشر، وليس العنصران غريباً عن طبعه ولا مفروضاً عليه من خارج نفسه.
إن أحد أسباب بزوغ مثل تلك الازدواجية هو انعدام التمكين، في التربية أساساً وفي التنشئة الممتدة في الحياة، في حفظ الشخصية بوجود أي ريحٍ تعصف بها، بحفظ المفاهيم لا بإدراكها، بتفضيل الآباء في قَولبة أبنائهم في نمطٍ معين، ورسم الحيز الذي سيشغلونه فيما بعد، أو انعدام التمكين في جعل ابن الاسرة أو ابن المجتمع حُرّاً في تشكيل وعيه وإدراكه وإرادته مُحتمياً بحقه في الإنسانية. لا تمرّ فترةٌ ساكنة إلّا ويتخلّلها موضوعٌ يتنازع الجمع حوله، إنه أشبه ما يكون بسيناريو دوريّ لبيان فاعلية البشر، أجزم أن الثلث لا يدرك الفكرة بذاتها، وإنما يتناحر كي يلقى موقعاً له، حتى لو وصل الأمر به لتخوين من يقابله أو سَبِّه أو تكفيره.
يلجأ كثيرٌ من الأفراد في المجتمع إلى نوع شكليّ بائس في التربية بصورةٍ مُجتزأة، تخدم أولاً وأخيراً فكرتَهم، ولا تخدم عقل الفرد الذي ما زال مُقبلاً على وجود كافة الأضداد من الموجودات، في النهاية سيكون له طريق واحد يختاره، سيتحمّل عواقبه بنفسه. وفي غالب الأحيان يكون مفعول الأفراد إيجابياً في جعل أبنائهم نسخاً مُطابقة، إلّا أنه بعد حين وحين سيتجرد ذاك الابن من منظومة الأهل والعائلة الصغيرة، حتى يلقى مجتمعاً ضخماً عليه أن يواجهه بكل جديّة، بعد أن تفاجأ أنه كان يعيش في بقعة صغيرة أفقدته المعنى الشمولي للعالم وما يحويه. سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ"، وحده حقٌّ ووحدة الحقيقة، وكلُّ ما سواه فكرة فرد في هذا العالم، سيّرَ ركباً من حوله كي يبقى له أثراً بالخير أو الشرّ.
كيف لنا نحن الشباب أن نصارع كل تلك المفاهيم في ضوء مُتغيّرات مُستجدّة دوماً! وفي كل يوم تعصف العاصفة بشرخ جديد يأكل من جسد هذه الأمة، ويضعها من جديد كي تُعيد النظر بمبادئها الأساسية، ولا تُكلّف نفسها أن تستمر بفكرة أصيلة ومنهجٍ حقٍّ كان هو الأجدى أن ينتفع به مدى حياته، لا من أفكار مُجتزأة تسلبُ العقل وتُميت القلب وتنزع الإيمان من جذوته. بعد مشوارٍ طويل من معارك النفس التي أوجدها العالم عنوةً عنّا، علينا أن نربّيَ أنفسنا بأن نُرفّعها عن كلّ دنيّةٍ، نُسميها لكل نافعٍ، كي لا تُخفَّف بالريح، فتؤول هباءاً منثوراً، ونُعرّفها العزّ كي يُستصغر أمامها الهوان والذلّ، ولا ننسى أن في النفوس ركونًا إلى اللذيذ والهيّن، فلا تعرّ نفسك كي لا تقع في بئر الهواجس من كل فكرة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.