شعار قسم مدونات

القاتل الأشقر.. الرواية التي تناقش الوجود الإنساني

blogs القاتل الأشقر 1

بعد رواية "نوميديا" ورواية "مرايا الجنرال"، يطل علينا الكاتب المغربي طارق بكاري في رواية جديدة بعنوان "القاتل الأشقر"، هذا الأشقر وجد نفسه محاطا بالخيبة والألم، كما أن علاقته بالقتل لم تكن عادية، فوالدته ظلت تمارس القتل على نغمات طقوس غريبة، وهذه الطقوس تجد صداها فيما تعرضت له في طفولتها، وهكذا مرّرت جينات القتل لابنها الذي ارتكب أبشع الجرائم رغم صدقه وصفاء روحه. وانطلاقا من ذلك عالج بكاري موضوع القتل، حيث ناقش الجانب الأخلاقي للقتل، وربطه بعدة مواضيع أخرى تتعلق بالإنسان ومصيره في هذا الوجود، ولعله يحاول من خلال ذلك دراسة واستكشاف تجربة الإنسان الوجودية، هذه التجربة تظل محفوفة بالمعاناة والخيبة. هكذا إذن تطرح رواية القاتل الأشقر إشكالية الوجود، وتبحث عن المعاني التي يتوسل بها الإنسان لرسم معالم وجوده.

 

استطاع طارق بكاري أن يسلط الضوء على قضايا الوجود والحياة والحب والجنس والتطرف وتنظيم داعش بأسلوب روائي، مزج فيه بين اللغة العميقة من حيث المعنى، وبين أحداث متراكمة ومتداخلة، وبين شخصيات تتشارك هموم الحياة بطريقة غير مباشرة، أما دور الراوي فقد تأرجح بين الأشقر وصديقه وليد معروف، وهو صحفي لبناني دفعت به الحياة إلى النبش في ماضي الأشقر، وإذا كان دور البطولة في يد الأشقر فإن الراوي الرئيسي هو وليد، بعد أن جمعتهما الحياة في تنظيم داعش قبل أن تتم محاصرتهما في غرفة في كوباني. ولقد شرع وليد في سرد ذكرياته مع الأشقر وهو في السجن بعد مجيئه إلى المغرب لإنجاز تقرير حول قضية الدعارة، فاختار من حكايته مع الأشقر مدخلا لإنجاز هذا التقرير.

 

وقع الأشقر في حب فتاة تشاركهم نفس المكان، كما أن أمها تشاركه نفس مهنة أمه، ولأن القضية تنطوي على المشاركة، فقد اشترك الأشقر وأخوه التوأم في حب شامة، الفتاة التي لم تكن تدرك معنى الحب

تلعب مرحلة الطفولة دورا مهما في تشكيل شخصيتنا، نظرا لما تنطوي عليه من أسس تُوضع كلبنات أساسية في شخصيتنا، من هذا المنطلق ذهب بكاري لكي يضعنا أمام طبيعة الشخصيات في روايته، ومن خلال ما يحكيه الأشقر لصديقه وليد يتجلى المسار الذي أدى بحياة والدة الأشقر إلى السير في نمط حياة لم يكن أحد يتوقعه، ذلك أن الأقدار دفعتها مرغمة إلى البحث عن الحياة في اللحظة التي لم تجد بديلا من ترك أختها يحوم حولها الموت، هذه النقطة جعلت الأحداث تتسلسل وتتداخل لتشكل لنا طبيعة شخصية حياة التي اضطرتها الظروف لاختبار المعاناة والقسوة والألم، فاختارت طريق العهر، عله ينقذها من وطأة الوجود، وبعد أن تراكمت عليها العقد، وتعرضت لأقسى أنواع المعاناة والاغتصاب، وجدت نفسها تسير لإشباع رغبات مقموعة داخلها، وهذه الرغبات أضحت تجدها في القتل، ثم ممارسة طقوس عُقدها النفسية على جسد الضحية.

 

هكذا كانت تعيش حياة، وبعناية كانت تختار ضحاياها، لتمارس عليهم طقوس القتل، بناء على ما تراكم فيها من عُقد، لكن ذلك لم يمنعها من ممارسة الحب، ولعله كان سببا في تزويدها بتوأمين لم تتضح معالم نسبهما الحقيقي نظرا لكثرة العلاقات الجنسية التي وجدت فيها حياة ضرورة للعيش، من هنا جاء بطل الرواية الأشقر، ووجد نفسه في عالم لا يليق به، حيث كبر في منزل خاص بالدعارة، هناك بدأت طفولته تتشكل حسب بيئته التي أرغمته على أن يتحمل قساوة الحياة، وعبث الوجود، لكن ما كان يتمناه الأشقر كان يتجاوز سقف منزل الدعارة، وما كان يعيش فيه، كان يُشعره بالتعاسة وبالدناءة، وكان يؤمن أشد الإيمان بأن الحياة لم تنصفه، وأنها لن ترأف به في جميع الأحوال، وبالتالي كان لزاما أن يختبر وجوده، في ظل ما تمارسه عليه الحياة من عنفوان، وقد كان الحب أبرز ما استهلت به الحياة عذابها عليه.

 

لقد وقع الأشقر في حب فتاة تشاركهم نفس المكان، كما أن أمها تشاركه نفس مهنة أمه، ولأن القضية تنطوي على المشاركة، فقد اشترك الأشقر وأخوه التوأم في حب شامة، الفتاة التي لم تكن تدرك معنى الحب، حيث علمتها الظروف أن هذا الشعور يستعصي على الاحساس، فظلت توهم التوأمين بحب لا وجود له، لكن الأشقر كان يحبها بعمق رغم أن نهايته معها ستستحيل عدما، وبالرغم من كل ما كان يقدمه الأشقر لشامة، إلا أنها لم تكن تعير ذلك أدنى اهتمام، إلا في اللحظات التي كانت لها مصلحة فيه، وهو ما كان يخفى على الأشقر نظرا لما يكنه لها من عشق، لكن مسار الحكاية سيتغير بعد الفيديو التي يصور لحظات عشق بين شامة وتوأم الأشقر، هذا الأخير قرر الهرب بعيدا عن الفضيحة، وهذه الأخيرة ستلتصق بالأشقر نظرا للشبه بينهما، ولم يكن يملك إلا أن يعترف بفضيحة لم يرتكبها، والتي ولدت فيه روح الانتقام، فبعد خروجه من السجن وجد نفسه مضطرا لوضع حد لحياة الفتاة التي ملكت قلبه، وبمساعدة الظروف نفذ الأمر بنفس طقوس أمه في القتل، وهذا الفعل هو الذي ورط أمه في الأمر، بل ورطها في كل الجرائم التي ظلت تحتفل بها كل رأس سنة، وذهب بعيدا من هناك، تاركا ذكرياته الحزينة بين جدران ذاكرته.

 

لقد توالت الخيبات على الأشقر، وبقدر ما تتوالى، بقدر ما تدفعه إلى حافة الانهيار، ولقد امتلأ بالأسباب التي تدفعه إلى الموت، لكن الموت ظل يؤجل موعده معه، ويضعه في موقف لا يجد بدا من الانصياع له. هناك في البيضاء بدأ الأشقر يغير من نمط حياته، لكن ضجيج الذكريات المؤلمة لم يدع الأشقر يبدأ حياة جديدة، بل بقدر ما يهرب من الماضي، بقدر ما يجد نفسه فيه، بين ثنايا ذكريات أمه التي ورطها في السجن، وذكريات حبيبته التي أرسلها إلى الموت. وبعد أن قرر تبرئة أمه من التهمة التي ورطها فيها، أوجدته الظروف مع صديق يعاني من الحياة، وحاله لا تستحق أكثر من الموت، نظرا للمرض الذي أنهكه، ومع اقتراب رأس السنة، وجد الأشقر نفسه يفكر في طريقة لتبرئة أمه، فلم يكن منه إلا أن اختار صديقه لكي يمارس عليه نفس الطقوس التي مارسها على شامة، لكن هذه القضية وضعت الأشقر على المحك، فلم يجد بدا من الانصياع لحنين الأمومة.

 

لقد عالج بكاري قضية القتل بأسلوب يذكر القارئ برواية الجريمة والعقاب لديستويفسكي، حيث طرح الجانب الأخلاقي لهذا الفعل الغير أخلاقي، فهل يعقل أن نضحي بشخص من أجل تبرئة شخص هو متهم في الأصل؟ وإذا كان المتهم يستحق فعلا أن نضحي من أجله، فهل يعقل أن نضحي بشخص آخر لم يعد هناك أمل في حياته؟ وإذا كان ذلك ممكنا، فهل يمكن أن يكون القتل بمثابة موت رحم لشخص لم يعد قادرا على الحياة؟ وهل من الحكمة أن نضحي بصديق لا أمل له في الحياة من أجل أم تستحق العقاب فعلا؟ أم أن الأمومة بغض النظر عن كل التهم والجرائم تستحق منا أن نضحي بشخص من أجل تبرئتها ونضرب العدالة عرض الحائط؟

 

بعد أن اضطر الأشقر إلى الهرب بعيدا عن التهمة، تصادف مع عدة أشخاص هنا وهناك أغلبهم نساء، ومعهم خلق ذكريات جديدة، وهنا ناقش بكاري قضية الجنس، هذا الطابو المجتمعي يفرض نفسه على أي فرد، فهو الذي يسكننا على نحو غريب، ولعله بمثابة رغبة تولد معنا، وبقدر ما نقمعها ونكبتها نتورط فيها، وقد تأتينا في أشكال أخرى بعد أن استحالت عقدا نفسية تمزقنا، وتدفعنا إلى ممارسة طقوس غريبة عندما نجد السبيل إلى الجسد، هكذا وظف الكاتب الجسد والجنس في روايته ليضعنا أمام المفارقات والتناقضات التي تسكن مجتمعاتنا، فبقدر ما أضحى الجنس محرما وطابو بقدر ما أصبح مطلوبا ومرغوبا، ومن أجله يفعلون كل الممكنات.

 

لقد تورط الأشقر في الحياة دون أن تكون له إرادة في ذلك، ولقد ملأته الظروف بالعقد والأفعال والذكريات التي لم يجد سبيلا إلى الهرب منها، هكذا اختار طارق بكاري الأشقر ليختبر به إشكالية الوجود، من الولادة إلى الموت، ذلك أن الرواية رافقت الأشقر قبل مولده إلى ما بعد وفاته، لتضعنا في إطار حياة محفوفة بالموت، وبقدر ما دفعت الحياة بالأشقر لأن يصير عبثيا وعدميا، بنفس القدر وجد نفسه مرغما على الحياة، وإجمالا يمكن القول إن تجربة الأشقر الوجودية اختبر فيها الحياة بكل ما تحمله الحياة من معاناة، وفي النهاية لم يجد الأشقر بدا من اشتهاء موت يريح هذا العذاب، لكن هذا الأمر لم يكن يسيرا كما أراده الأشقر بل إنه جاء بشق الأنفس بعد أن أفرغ ما في ذاكرته من ذكريات.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.