نستيقظ كل يوم على خبرٍ جديد، نستيقظ ليبزغ مع الشمس حادثة أخرى، غيوم سوداء تحيط سماءً شاسعة، ليتبدل لونها الأزرق الجميل بسوادٍ داكن، سواد يكاد يختفي معه جمال الألوان وتنوعها، لتمسي الألوان لوناً واحد، لا تختلف في عين الناظر، يكاد يصف من يرى هذا التغير أنه لونٌ لا لون له، لونٌ يضفي على الأشياء كآبة تفوق الحدود، لونٌ لا يترك وراءه غير الذكريات السيئة.
لم يستطع أحد أن يصف هذا اللون إلا بالأسود، فقد اعتدنا أن نصف الأشياء التي لا نعرفها ونشبهها بالذي نعرف، بحثنا عن الإيجابيات في هذا السواد، فخرجت أمة منّا تقول: "السواد يليق بكل شيء". لكن هل السواد يليق بنا كشعوبٍ عربية؟ شعوب تستيقظ على أخبارٍ أحلك سواداً من ذي قبل، فكيف تكيفنا نحن الشعوب مع هذا السواد؟
اعتدت منذ مدة طويلة لا أكاد أحصي عدد أيامها أن أستيقظ مبكراً لأرى مستجدات ما يحصل في هذا العالم الضخم، فكنت أقرأ عناوين الأخبار عنواناً تلو الآخر يصف التغيرات السياسية الضخمة والعلاقات بين البلدان التي تسوق الشعوب إلى غير المعروف، كنت أمرُّ مرور الكرام وأقول: "كان الله في عونِ جيلٍ سيشهد هذه التغيرات"، ولم أكن أدري يوماً أنني سأكون هذا الجيل الذي سيشهد ويسمع ويعيش هذه الأحداث.
رغم كل هذه الأحداث لم يقرر المواطن العربيّ أن يقف يده بيد غيره، فقد اختار البعض أن يتجرد من عروبيته، أن لا يعترف بأصله ولغته، لم يبحث عن أصل المشكلة وسببها بل اختار أن يلقي اللوم على من ظُلِموا من إخوته |
توالت الأيام وبدأت العناوين تطال أحادثاً تدمي القلوب، لنسمع عن قتلٍ وتهجيرٍ للشعوب، عن تفجيرٍ إرهابيٍّ راح ضحيته أرواح بريئة لا دخل لها بكل ما يجري، إنما همّها الوحيد هو أن تحصل على قوت يومها وأن تنهي نهارها بجلسة عائلية، ذنب هذه الأرواح البريئة أنها أرادت أن تعيش بهدوء وسلام، ولكن كيف ستعيش بعيداً عن أفواه بنادق من يعثون في الأرض فساداً، من أرادوا إضافة حرف《الراء》إلى كلمة الحب ليقلبوها إلى حربٍ دامية، تحرق الأخضر واليابس، تدهس على أجساد من أرادوا العيش بعرَق جبينهم وتدفن كل من يقف في طريق تحقيق المصالح.
تعاقبت هذه الأحداث، حتى أصبح من الغريب أن يأتي يومٌ لا نقرأ فيه حدثٌ يصيب أمتنا العربية، حتى من خرج منّا إلى دول أوروبية، لاحَقتهم نفوس من يبغضون الروح الإسلامية، ليصابوا في صدورهم وهم يصلون بكل سلمية. طغى هذا السواد علينا كشعوبٍ عربية، كأننا شعوب ملعونة بلعنة الأحداث الدموية، لا يرحل منّا واحد أو إثنان، إنما يرحل منّا المئات بيوم واحد، أصبحنا نشعر أننا لسنا بتلك الأهمية، ليس لشيءٍ إنما هذا هو ما تخبرنا به عناوين الصحف والجرائد.
حتى ما يصيب شعوباً أخرى أصبح مصاب لمصابنا، أصبحنا نُتَهَم بأحداث لم يكن لنا فيها أي يد، حتى انتشر الإسلاموفوبيا كالنار في الهشيم بين من لم نفكر بإيذائهم حتى، لم يدروا أننا تائهون وحائرون بأمورنا وأننا لا نملك وقتاً لنخطط ونستهدف، بل نفكر بالحدث القادم ومن سيكون التالي. لم تمر كل هذه الأحداث مرور الكرام علينا كشعوب، فأصبح الشابُّ منا يهرم باكراً، يبدو كأنه في عمر الخمسين وهو في بدايات العشرين، تحيط بنا كآبة لا نعرف مصدرها، اختفت ابتسامتنا التي اعتدنا أن لا تفارق محيانا وضيقة جمّة تلتصق بصدورنا حتى أصبح الواحد منّا لا يطيق الآخر، همه الوحيد نفسه ثم نفسه، انجرفنا نحو دوامة يبدو أن الخلاص منها مستحيل.
لم تتوقف الأحداث عن ملاحقتنا، ولم يستطع بعض من يملكون نفوساً شريرة أن يقفوا مكتوفي الأيدي، فظهر منهم من يلون الأخبار ويضيف البهارات عليها، فلم نعد نعرف الصادق من الكاذب، ولا الجاني من الضحية، فقد الحق لونه، ليطغى عليه سواد الظلم الذي ما عاد يميز مظلوم من ظالم وسحب هذا الطوفان الجميع، ليلعب بعقول من يملكون مبادئ وقضية ويغسل ما تبقى من نقاء قلوبهم.
رغم كل هذه الأحداث لم يقرر المواطن العربيّ أن يقف يده بيد غيره، فقد اختار البعض أن يتجرد من عروبيته، أن لا يعترف بأصله ولغته، لم يبحث عن أصل المشكلة وسببها بل اختار أن يلقي اللوم على من ظُلِموا من إخوته، يرمي سهامه ويقول: "العرب هيك طول عمرهم ما بتغيروا".
رفعنا أيدينا نحن الشعوب العربية، رفعنا راية الاستسلام موقنين أن لا وسيلة لنا غير الخضوع، مُسلِّمين أنفسنا لما تحيكه خيوط السياسة أو لما تأمره وتفرضه تلك المؤسسات الإنسانية، التي نعتبرها ضماناً لحقوق الإنسان ومصالحه، ولم ندري أنه شتّان بين من يناضل حقاً ليحصل الإنسان على حقه وبين من يدّعي الإنسانية.
استسلم المواطن العربيّ، قرر أن يطوي الجريدة فقد أيقن أن أيدي الظلم طويلة، طويلة إلى حدٍ لا يكاد أن ينتهي، فلم تكن هذه الأيدي قادرة على أن تطال الأخضر واليابس فقط بل استطاعت أن تنال من جسد المواطن العربيّ، من لقمته، وعيشه وحتى نَفَسِه، فعاش المواطن عيشاً كأن لا روح فيه، مؤمن بشيء واحد، وهو قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا﴾.