شعار قسم مدونات

العلوم الإنسانية والعلوم التطبيقية جناحا النهضة الحضارية

BLOGS مكتبة

يتفق غالبية المؤرخين والباحثين أنّ بناء الحضارات يرتكزُ في شقه النظري على عاملين جوهريين، أولهما العلوم الكونية وثانيهما علوم الطبيعة والمادة، على أن العلاقة القائمة بين هذين المسارين علاقة شرطية لقيام حضارات متوازنة، مع تفاوتٍ في حجم استنادِها على العلوم المنبثقة عن كلّ منهما والذي يتحدد عادة بحسب موقع الأمة من الحضارة المنشودة.

ويمكننا القولُ ولن نكون مخطئين على الأرجح أن أدنى اختلال في ترجيح كفة أحد المسارين على الآخر يمكن أن يؤدي في المقابل إلى اختلال في التوازن الحضاري، كأن يؤدي إلى انشغال المجتمع بالتنظير واعتماده كلياً على منتجات الحضارات الأخرى من الناحية التقنية والخَدَمية، أو إلى إصابة الأمة بإفلاس تدريجي في عالم الأفكار وتحولها إلى مستورد ومستهلك لثقافات الأمم الأخرى. وإذا ما أمعنَّا النظر أمكننا ملاحظة أننا نعاني اليوم في مجتمعاتنا من اختلال في ميزان الاهتمام بالعلوم لصالح ترجيح كفة العلوم التطبيقية، حيث حظيت الأخيرة بمساحة واسعة من اهتمام الشريحة الأكبر من أفراد المجتمع، الأمرُ الذي بات يعززه الواقع التعليمي بصعود الطلب على تلك العلوم الى أعلى هرم التخصصات الجامعية، وحيازتها لقب "تخصصات القمَّة" بامتياز، وهو الأمر الذي يستدعي منا إعادة النظر في واقعنا التعليمي والوقوف على جذور هذه الإشكالية ومخاطرها في محاولة لفهمها بشكل أعمق.
     

لعبت وسائل الإعلام دورًا مؤثرًا في تشكيل الصورة النمطية المشوهة للعاملين في التخصصات الانسانية والاجتماعية، الأمرُ الذي عُدَّ عاملًا إضافيًا ساهم في ترسيخ غياب الاهتمام بتلك العلوم

إن التهميش الذي مارسته مجتمعاتنا تجاه تخصصات العلوم الاجتماعية والانسانية والتي تهتم بدراسة الظاهرة الإنسانية والعلاقات القائمة بين البشر، جماعاتٍ وأفرادًا، كعلم الاجتماع والنفس والتاريخ والأديان والعلوم السياسية وغيرها، أدى إلى عزوف الطلبة عن الالتحاق بها، وهو الأمر الذي تسبب بدوره في افتقار دولنا لباحثين متخصصين ذوي خبرة ومراكز بحثية متقدمة من شأنها أن تمدّ صناع القرار بما يحتاجونه من دراسات وأبحاث تكُسبهم فهمًا أفضل للظواهر الاجتماعية وخلفياتها، وبالتالي إلى وضع استراتيجيات مناسبة لمواجهة الأمراض الاجتماعية ودفع عجلة التطور نحو الأمام. ولعل حالة العجز والتخبط التي واجهتها شعوب دول الربيع العربي في الانتقال من الصحوة الى اليقظة والانبعاث، مثالٌ حيٌّ على التبعات السلبية لتهميش تلك العلوم طوال عقود سابقة تبعًا لأسباب كثيرة.

  

ولعل أحد أهم العوامل التي تدفع الطلبة للتهافت نحو ما يسمى بكليات القمة هو ضيق الأفق الذي يربط مخرجات التعليم بسوق العمل، حيث يسود اعتقاد بأن الكليات الطبية والهندسية غالبًا ما تكون فرص العمل التي توفرها أكثر وذات عائد مادي أعلى. ولا يخفى على كل مطلع أنّ هذا الطرحَ المنطلق من رؤية ربحية بحتة يقدم الخلاص الذاتي على الخلاص الجماعي، وهو فضلًا عن استناده على صورة مشوهة تجاه الأدوار ومساحات العمل التي تتيحها العلوم الإنسانية والاجتماعية فإنه يتجاهل القيم النبيلة التي تميزُ الإنسان عن بقية الكائنات بكونه كائنًا تشاركيًا ينتمي إلى محيط اجتماعي واسع، وهو ما أشارت إليه "مارتا نوسباوم" في كتابها الشهير "ليس من أجل الربح" عندما قالت " إن هناك فرقًا بين التعليم من أجل الربح والمتسم بقصر الرؤية، والتعليم من أجل المواطنة والذي يتسم بالرؤية المستقبلية" كما أنها تضيفُ قائلة: "العلوم الاجتماعية والإنسانيات تدعم النوع الأخير وتكسب المتعلم صفات وقدرات من شأنها أن تجعله مواطنًا بناءً محليًا، وأن التقصير في إعداده بهذا الشكل يعرض مستقبل المجتمع للخطر". 

علاوة على ما سبق، وبالنظر إلى المكانة الاجتماعية المرموقة التي يحظى بها الأطباء والمهندسون في مجتمعاتنا الحالية، فإنه يمكننا أن نفهم اليوم بشكل أفضل الظروف التي تقفُ خلف اندفاع النسبة الكبيرة من الشباب المنتمين إلى الطبقة الاجتماعية الوسطى والدنيا الذين بدأوا حياتهم في الأرياف وأطراف المدن الكبرى، إلى إثبات ذواتهم وتحقيق مكانة اجتماعية أفضل عبر الدخول في إحدى تلك الكليات، على أمل تعويض التهميش الذي لطالما عانوا منه وشعروا به في بلدانهم.

  

بتنا ندركُ بعد موجة الربيع العربي القيمة الجوهرية للعلوم الانسانية والاجتماعية والدور المؤثر الذي تلعبه في إدارة الصراع، وحاجتنا الماسة إلى متخصصين فيها أكثر من أي وقت مضى
بتنا ندركُ بعد موجة الربيع العربي القيمة الجوهرية للعلوم الانسانية والاجتماعية والدور المؤثر الذي تلعبه في إدارة الصراع، وحاجتنا الماسة إلى متخصصين فيها أكثر من أي وقت مضى
   

ومن جانب آخر فقد لعبت وسائل الإعلام دورًا مؤثرًا في تشكيل الصورة النمطية المشوهة للعاملين في التخصصات الانسانية والاجتماعية، الأمرُ الذي عُدَّ عاملًا إضافيًا ساهم في ترسيخ غياب الاهتمام بتلك العلوم، فلطالما كان يُنظرُ إلى طلاب الفلسفة وعلم النفس والتاريخ وغيرها على أنهم مأزومون نفسيًا يعيشون في عوالم غريبة خاصة، منعزلون عن المجتمع، ويفتقرون لأدنى مقومات الحياة الاجتماعية العصرية، بالإضافة الى تصوير مجال العمل السياسي على أنه نادي مغلق يُحتّم على الراغب بدخوله الى اكتساب صفات معينة منها: الكذب، النفاق، الخداع واستغلال حاجات الناس للوصول الى السلطة. لتكون بصمة وسائل الإعلام هي الجزء الآخر من وصفة التجهيل التي أعدتها الأنظمة الاستبدادية والتي تدركُ بما لا يدعُ مجالًا للشك أن إقبال الطلبة على العلوم الإنسانية والاجتماعية واهتمامهم بها من شأنه أن يخلق فضاءات جديدة للتفكير والنقد ويساهم في زيادة الوعي السياسي والاجتماعي لدى الجماهير، وهو ما سيدفعهم لطرح الكثير من التساؤلات في الاقتصاد والسياسة، الأمر الذي تعدّه تلك الأنظمة تهديدًا وجوديًا مباشرًا لها ودافعًا للثورة عليها، ومن أجل ذلك فإنها لا تدَّخر جهدًا في سبيل تهميش تلك العلوم وإهمالها واحتكار تطبيقاتها.

ولعلنا في هذه الأيام، وأعني بها الفترة الانتقالية التي جاءت بعد الموجة الأولى من ثورات الربيع العربي والثورات المضادة وما خلفته من خيبات أمل، بتنا ندركُ القيمة الجوهرية للعلوم الانسانية والاجتماعية والدور المؤثر الذي تلعبه في إدارة الصراع، وحاجتنا الماسة إلى متخصصين فيها أكثر من أي وقت مضى، لوضع الخطط الاستراتيجية وإعادة توجيه الوعي الجمعي نحو الأهداف الكبرى التي خرجت الشعوب من أجلها وقدمت الكثير من التضحيات في سبيلها، والوصول إلى منتجات فكرية تجيبُ عن أسئلة الجماهير الملحة، وترسم الطريق نحو مستقبل أكثر إشراقًا. وفي الختام لابدَّ لنا أن نشير الى أن العلوم الانسانية والاجتماعية والعلوم التطبيقية والخدمية هما جناحا النهضة الحضارية، فلا انبعاث ولا نهضة بتهميش أحد الجناحين والاعتماد على الآخر فقط.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.