شعار قسم مدونات

اتركوا غزة تعيش!

شنت طائرات حربية إسرائيلية، عصر الجمعة، غارات على مناطق متفرقة في قطاع غزة. وأفاد مراسل الأناضول، أن الطائرات الإسرائيلية قصفت مناطق متفرقة في مدينة غزة وخانيونس (جنوب) وشمال القطاع. ( Ali Jadallah - وكالة الأناضول )
غزة هي التي صرخ أهلها بقوة "نموتُ واقفين ولن نركع" (وكالة الأناضول)

جمال الحياةِ يتدفقُ من قناعةِ الأحياء باحترامِ بعضهم البعض وعدم إقصاءِ الآخر، واعتمادِ نهج الشراكة، الشراكة المبنية على الفهم السليم لطبيعة الدنيا، وما تفرضه علينا من تحدياتٍ، تُحتمُ آلا نجور ونظلم لمجردِ خلافٍ بسيطٍ في الرأي؛ فالكون بُني على الاختلاف، وفيه رحمة للعباد، فلو خلقنا الله متشابهين في الصور والأشكال والأفكار، لفقدت كل الأشياء هيبتها تباعًا.. أن نحترمَ الآخر، ما أبسط الحديث حين تتفوه به شفاهنا، بيدَ أن تطبيقه يغدو تحديًا أصعب من تحقيق المعجزات، ذلك لأن التعصب الحزبي وصلَ بنا إلى طرقٍ مسدودة؛ فأوصدَ كل مساحاتٍ كانتْ في عقولنا مفتوحة، فلم يعد هناك مجالاً للنقاشِ أو التفهم؛ ليُصبح الحال "إما نحن وإما خصومنا"! ليسَ هذا من الدين، ولن يكون هذا من الأخلاقِ أيضًا، كما أنه منافٍ للعُرفِ والعادة والتقليد، فبنيان أي مجتمعٍ سليم يجب أن يكون متراص ومتحد، بصرفِ النظر عن تعدد وجهات نظر أبنائه.

أردتُ من هذه المقدمة الكلاسيكية الروتينية التقليدية، أن تكون مفتاحًا لاستهجانِ ما يدورُ في مدينتي الرائعة والصابرة والمحتسبة "غزة"، التي تسعى أطرافٌ مشبوهة لوأدِ ترابطِ أهلها ونسفِ صمودهم عبر الترويجِ لبرامجَ تهدفُ إلى تدميرِ المقاومةِ وضربها، تلك المقاومة التي حمتْ ظهورنا وصدورنا في ثلاثةِ حروبٍ شنها الاحتلال الإسرائيلي ضد اثني مليون محاصرٍ فيها، بعد أن تخلى القريبُ والبعيد عنهم، وأطبقَ حتى الأشقاء العرب منافذ الحريةِ في وجوههم، فعانوا من نقصِ الأدويةِ والمستلزمات الطبية.

غزة الأبية الطاهرة هي التي تعضُ على جرحها المفتوح منذ أكثر ستة عشر عامًا، ناهيك عما قبلها من سنوات عجاف وتمضي بخطى واثقة نحو تحرير المقدسات، عبر مسيراتها السلمية على حدود التماس مع فلسطين التاريخية المحتلة عام ثمانية وأربعين، غزة التي صرخ أهلها بقوة "نموتُ واقفين ولن نركع" تُحاصرُ اليوم برؤى بشعة حيثُ يسعى أعداؤها إلى اختزالِ أفكارها التحررية الرائعة في رغيفِ خبزٍ وقليلٍ من ملحٍ وكهرباء..!

يدعي بعضُ المروجين لضربِ حماس ومقاومتها في غزة، أن كل من يقفون معها هم من الأثرياء، لكن هذا ليس صحيح فكثيرون لا يملكون قوتَ يومهم ومع ذلك يستبشرون خيرًا بالذين لم يضيعوا أملهم في تحرير فلسطين

غزة التي حُوربتُ في حليبِ صغارها أعوام وأعوام، وعندما نهضتْ تنفضُ عن عينيها الكرى، وخططتْ بكل بسالة وسيّرت مسيرات العودة الكبرى، ونجحتْ في حشد الطاقاتِ نحو فكرتها في استعادة فلسطين التاريخية، وواصلتْ على مدارِ عامٍ كاملٍ في تطويعِ كل الصعابِ لصالحِ مقاومتها ومشروع التحرر، هي ذاتها اليوم التي يُريدون أن يُعيدوها إلى مربعِ الألم الأول، مربعِ الحصار بأزماته الأزلية الكهرباء والماء والهواء والدواء خبز الجياع..!

مَنْ يضحكُ على من؟ صحيحٌ أن الوضعَ الاقتصادي في غزة صعبٌ للغاية لدرجة أنني وأنا أكتبُ تدوينتي هذه أشعرُ بالقهرِ حقًا، فقد فقدتُ عملي جراء الأزمة المالية التي عصفتْ بعددٍ من المؤسسات الإعلامية في مدينتي المحاصرة؛ فكان الإغلاق مصيرها، ومع هذا لم يتمكن أحد من الإخلالِ بصورةِ المقاومةِ في نظري وحركات التحرر كافة التي تقفُ سدًا منيعًا في وجه كل المشاريع التصفوية..

يدعي بعضُ المروجين لضربِ حماس ومقاومتها في غزة، أن كل من يقفون معها هم من الأثرياء الذين لم يُحرك فيهم الحصارُ الإسرائيلي أي شعرة، فعاشوا وناموا وأكلوا ومارسوا طقوسهم وكأنهم فوق ريحٍ من شدةِ ثرائهم، لكن هذا ليس صحيح فكثيرون لا يملكون قوتَ يومهم ولا يعرفون كيف سيأتي عليهم الغد، ومع ذلك يستبشرون خيرًا بالذين لم يضيعوا أملهم في تحرير فلسطين، أجل تحرير فلسطين، شعارهم في ذلك "نعيشُ أيامنا لا نقتات إلا الخبز والملحا؛ فليس الجوع يرهبنا آلا مرحى به مرحى"..

فالناسُ في غزة، ليسوا كالدواب، يريدون من يقدم لهم الأعلافَ والطعام، دون أن تعمل عقولهم وتُفكر وتقفُ متمعنة في أهدافِ أي طعامٍ مشبوهٍ يُقدم لهم، إنهم أناسٌ اشتروا بجوعهم كرامة وحرية وهواءً نقيًا، ليعبروا فيه جسر العودة إلى يافا وحيفا وعكا وطبريا، وليتمكنوا عبره من تقويةِ عظامهم ليصلوا في المسجد الأقصى المبارك هاتفين "الله أكبر على مشاريعِ الإغاثة المسمومة، والطحين المزيف بزيفِ من يدعون أن قلوبهم على غزة وأهلها"..

اتركوا غزة، أجل اتركوا غزة بجوعها وفقرها ومرضها.. اتركوها لمقاومتها، اتركوها لأهلها، فهم وإن جاعوا؛ فإنهم يعلمون الدنيا كلها من أين تؤكلُ الأكتاف، ومن أين يأتي النصر، لطفًا غزة تعرفُ كيف تخدم نفسها وكيف تنتصر على جرحها، غزة أقوى منكم جميعًا، جوعها كرامة، ومرضُ أهلها شهامة، وإلى يوم القيامة هي تاجٌ على رؤوسِ كل من يدعون نصرتها، وهم في الحقيقة يريدون لها ولمقاومتها الذل والمهانة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.