اختار الكاتب المغربي حمدي التريعي "لغة الصمت" عنوانا لمؤلفه الأول، ويبدو أن اختياره لهذا العنوان يحمل دلالات عميقة مرتبطة بتجربته الوجودية، هذه التجربة دفعته لكي يستنطق الصمت في زوايا متعددة، وتمكن من ترويض اللغة لتنصاع لتصوراته ومواقفه، محاولا الغوص في أعماق المجتمع، لاستنطاق الصمت الذي يحوم حول هذا المجتمع، ومن خلال كل ذلك أعطى تعريفا دقيقا للصمت، كما أبرز السبب الذي ورطه في هذا الموضوع، والذي دفعه إلى سبر أغواره، من خلال ربطه بحياته الشخصية وعلاقاته الاجتماعية والمعرفية، كما أنه كان جريئا في البوح الذي رافقه في صوغ مؤلفه هذا، والذي جعل منه كاتبا عفويا واقعيا من خلال تجربته الصادقة، وإنسانا من خلال مواقفه التي كانت تميل لصالح الإنسانية.
حاول حمدي التريعي أن يحيط بمفهوم الصمت، وذلك عن طريق البحث في جذور هذا المفهوم وفي معناه وفي علاقته بالإنسان، حيث أبرز حضوره القوي في خطاباتنا، كما سلط الضوء على المعنى الذي ينطوي عليه عندما نكون بصدده، وذلك من خلال ما يملأنا به، ومن خلال ما يضعنا فيه، ومن خلال ما يدفعنا إليه، وبواسطته نتمكن من جعل المعنى قابلا للتأويل، كما نستطيع من خلاله التعبير عما يخالجنا دون أن نستدعي الكلمات، وهنا تكمن قوة الصمت، وفي هذا الإطار اقترح الكاتب أن نعالج الصمت عن طريق محاولة الكتابة، علها تكون حلا لاستنطاق مضامينه، لكنه يظل أقوى من أن نعبر عنه بواسطة كلمات قد تقتله، وقد تجعله منطوقا وفاقدا لمعناه الأصلي، وهو المعنى الذي يتحدد من خلال الصمت فقط.
| أعطى الكاتب حيزا مهما للجسد، في الفصل الذي عنونه بصمت الجسد، والذي أبرز فيه أهمية الجسد داخل أسوار الحياة، ومدى أهميته في إعطاء تجربة الوجود معنى خاصا، فهو تعبير عن وجودنا، وهو صوت الفطرة المتحرك |
عندما نعبر عن الصمت بالكتابة ندع الفرصة للقارئ لكي يهبها الحياة بواسطة تأويلات محتملة، هكذا اعتبر حمدي التريعي أن اللغة تنجح في توحيد المعنى، لكنها تغتاله من خلال ما تفتحه من معاني أمام تأويلات القارئ، وهنا ميز بين اللغة الأدبية وما تمنحه لنا من حرية، واللغة الرياضية التي تخالف هذه القاعدة. ثم انطلق الكاتب نحو استحضار مواقفه وآراءه التي تخص نظرته للصمت، وربط ذلك بتجاربه الحياتية، وأبرز ما استهل به الكلام هو الفلسفة، ليس بسبب كونه أستاذا لها، ولكن بما تحمله الفلسفة من معاني، ونظرا لأهميتها البالغة في فهم تجربة الإنسان الوجودية، وما تضفيه من قيمة في جعل هذا الوجود ذات معنى، واعتبر الكاتب أنه في الفلسفة يكمن الصمت، لأن كل مجال للقول الفكري قابل للنقد وكتب يقول: "إننا باختصار أمام وصاية يمارسها فكر حي على ذاته قصد اكتشافها في كل حالاتها وفي صورها المتعددة".
وضع حمدي التريعي مجموعة من القواعد استنتجها من خلال تحليله لمواضيع الصمت، وهذه القواعد بمثابة نصائح تدعو إلى الحياة، ويدافع عن هذه القواعد بواسطة حجج من تاريخ الفكر، من سقراط نحو شوبنهاور ونتشه وفرويد وسيوران، هؤلاء العظماء كان لهم دور بارز في تاريخ الفلسفة، ومن خلالهم حاول الكاتب أن يستنتج معنى الصمت، ليضع لنا قواعد تعطي معنى لتجربة الوجود، من هنا دعا الكاتب إلى اختبار تجربة الكتابة، لأنها يمكن أن تنتشلنا من وجودنا العبثي، كما يمكنها أن تستنطق المعنى من خلال ما نضمره من تعابير قد لا نقدر على البوح بها شفويا. من خلال ذلك عرّف الكاتب الصمت بأنه "لغة الوجود التي تعبر عن كل شيء دون أن تقول شيئا، وبحر من المعاني المتداخلة التي تعبر عن وجعنا وفرحنا، وكل ما نعيشه من طقوس اللامعنى". وميز كذلك بين الصمت والسكوت، واعتبر بأن الصمت حكمة، بينما السكوت جمود قاتل، قد يكون نتاج خوف، وبينهما تقف الكتابة كأثر تسخر على العالم بلغة لا يفهمها، وإنها لغة صامتة تواجه ضجيج الوجود بحروف ميتة كتابيا على حد تعبير الكاتب.
انطلق الكاتب بعد الفصل الذي استنطق فيه صمت وجوده المتعدد والمتنوع صوب استنطاق صمت المواضيع المرتبطة بهذا الوجود، واستهل ذلك بصمت الفن، وقد عرّفه الكاتب على أنه بمثابة الأوكسجين الذي يغذي أرواحنا لاستحمال عبثية الوجود، كما أنه الملجأ الوحيد الذي يمكن أن ينسينا بؤس العالم، وهكذا استنتج الكاتب المربع الذهبي الذي يشمل: الفن مرآة الوجود، والجسد نصفه، والموسيقى روحه، والحب هو الوجود عينه. ثم أشار بعد ذلك إلى صمت القصيدة، حيث أبرز أن الشعر فن يكتب الصمت في أشكاله المختلفة، وأن لغة الصمت تعبر في جوهرها عن تجارب ذاتية محضة. ثم حاول الإحاطة بالمعاني التي تحملها الصورة، من خلال كونها رسالة صامتة، وأعقبها بالحديث عن صمت الموسيقى، واعتبر في هذا الصدد أن تحريم الموسيقى هو الذي يؤدي إلى ارتكاب الحماقات، وهكذا دعا إلى البحث عن الذات بواسطة الموسيقى، وأن هذه الأخيرة بمثابة وجود نبدعه ونستمتع به كلما ضاق بنا الوجود.
أعطى الكاتب حيزا مهما للجسد، في الفصل الذي عنونه بصمت الجسد، والذي أبرز فيه أهمية الجسد داخل أسوار الحياة، ومدى أهميته في إعطاء تجربة الوجود معنى خاصا، فهو تعبير عن وجودنا، وهو صوت الفطرة المتحرك، وهو الذي يحكمه منطق الطبيعة وبؤسها. ونظرا لمكانة الجسد في عقلية المجتمع، ونظرا لما يمكن أن ينتج عن هذا الجسد من فتنة لا تناسب طقوس المجتمع، فقد تم تحريم الجسد بشكل يتناقض مع وجود الجسد، وهي المسألة التي انتقدها الكاتب، واعتبر أن التحريم يظل وليد الجهل، ولهذا نجد أن مجتمعنا لا يدرك قيمة ومعنى الجسد بشكله الوجودي، بل ينظر إليه على أنه مجلبة للفتن، حيث أنه يتناقض مع العقيدة المجتمعية التي غالبا ما تضع هذا الجسد في قوالب يستحيل على العين التسلل إليها لاستكشاف جماله. وما دام الجسد مشكلا بطريقة مميزة، فلابد من أن نتعامل مع الجسد بكل متعة واستمتاع، وأن نأخذ منه نصيبنا من الحياة، يقول الكاتب: "الرقص ليس فقط فرصة لإيقاظ العفريت الذي يسكن باطننا، بقدر ما هو دعوة للحياة في زمن اليأس والخيبات".
تحدث الكاتب عن صمت النخبة، من خلال تسليطه الضوء على صمت المثقف، هذا الأخير صار يفقد مناعة التصدي لدماغوجية الأنظمة الحاكمة، مما يجعل المثقف في بيئتنا لا ينسجم مع معنى المثقف الحقيقي، والذي عرّفه الكاتب بأنه هو من يملك وعيا شقيا، وحسا نقديا يتمرد على كل احتواء نظري وإيديولوجي، وعميق التشخيص لوضعية وطنه وموقفه واضح من كل حراك شعبي محلي. كما تطرق الكاتب لصمت رجل الدين، والذي ساهم في تكريس عقلية لا تليق بما ينبغي أن تكون عليه مجتمعاتنا، وهي العقلية التي تبدو من خلالها الحياة كالموت، ومن هذه الزاوية أبرز الكاتب التأثير السلبي لرجال الدين في مصير المجتمع، كحرية الاعتقاد مثلا، والتي يرى الكاتب أنه لا يمكن تطبيقها في البيئة العربية إلا بعد تربية وتكوين جيل النشء على المواطنة المستقلة عن المعتقد.
أشار الكاتب إلى صمت العباقرة من خلال صمت محمد شكري، هذا الكاتب المغربي الذي يجسد معنى المعاناة في كتاباته، ومؤلفه البارز "الخبز الحافي". ثم صمت فرويد، الذي أعطى إضافات مميزة لفهم الجانب النفسي من الانسان، وهو الذي حاول أن يسبر أغوار الجهاز النفسي، وذلك من خلال تفسير الأحلام. ثم صمت محمود درويش، والذي وصفه الكاتب بالمدافع عن جمال الوردة العفوي وحرية العشاق في العناق على مرأى كهان الطهارة. ثم تحدث عن سكوت وليس صمت طه عبد الرحمان، وفي ذلك معنى يفيد الفرق بين الصمت المتسم بالحكمة، والسكوت المدعاة إلى التراجع، إذ انتقده الكاتب واعتبره بمثابة منظر للسلفية ومبرر هيمنة الدين على الدولة والمجتمع نظرا للتخلف. ثم تحدث عن صمت العاهرة، هذا المصطلح الذي ظل حكرا على المرأة، رغم أن كلا الجنسين يأخذان نصيبهما منه، وهكذا دافع الكاتب عن العاهرة باعتبارها بائعة الحب الحقيقي التي تتصبب عرقا لجعل العاهر ينبض بالحياة.
ختم حمدي التريعي مؤلفة لغة الصمت بعنوان اعترافات صامت، والتي عبر فيها عن مجموعة من تجاربه الوجودية، وعلاقاته الإنسانية، ولقد كان جريئا في التعبير عن مغامراته وأسراره، كل ذلك من أجل أن يستنطق لغة الصمت، وهي اللغة التي يصعب فهم مضامينها، لكن الكاتب أبدع في محاولته الصادقة هذه، لينتج لنا مؤلفا يصعب تحديد المجال الذي ينتمي إليه، باعتباره يجول في الوجود بكل حرية، كما انتصر فيه للإنسان، وانتقد فيه كل ما يدفع بالعقل نحو الخمول، في مقابل الاهتمام بالفلسفة وما يمكن أن تذره علينا من تفكير وتأمل.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

