شعار قسم مدونات

جولة قصيرة في أحد شوارع صنعاء

blogs اليمن

دلفتُ من باب العمارة فارتطم وجهي بجوٍّ جميل، باردٍ برودةٍ لطيفة، ليس ذلك البرد الذي يدعو للتدثّر، ولكنّه ذلك البرد الذي يجلب الانتعاش، يبدو أن الغيوم قد غطّت سماء صنعاء كعادتها، أخذتُ نفساً عميقاً من هذا الجو الجميل في مدينةٍ عُرفت بجمال جوّها وناسها، مدينةٌ لا تليقُ بها بشاعة الحرب، بعدها ملأتْ أُذناي أصوات الأطفال في الأرجاء، يتقافزون ويركضون في فرحٍ وسرور، غير مبالين بإتساخ ملابسهم، ولا بالسيارات التي تمر بالقرب منهم.

 

رأيتُ أيضاً عدة شبان يلعبون كرة القدم وسط الشارع، مرّت سيارةٌ ببطء بسبب المطبات التي تمنعها من اختيار السرعة التي تريدها، فابتعدوا قليلاً، مسافة تكاد لا تمنع السيارة من دهسهم لولا سرعتها البطيئة، وأول من انتبه لوجود السيارة نادى: سيارة.. سيارة، فتبعه آخر: سيارة.. سيارة، وهكذا واحداً تلو الآخر، بعد مرور السيارة عادوا إلى نفس المكان، إلى ملعبهم، أقصد الشارع، إبتساماتهم وقهقهاتهم تكاد تخفي حُزن المدينة وبؤسها، ربما اعتاد هذا الشعب أن يبتسم رغم كل شيء.

 

مررتُ بعدها بعمارتين يتم بناؤهما فتبادر السؤال الذي يتبادر إلى ذهني دائماً لماذا يبنون في مدينة تحت الحرب، مدينة بلا كهرباء ولا ماء ولا رواتب! فقد زرت الأسبوع الماضي إحدى المراكز التجارية الكبيرة التي تمّ بناؤه حديثاً، وفتحت فيه الكثير من المحلات التجارية، وكثيراً ما نسمع عن إفتتاح مركز تجاري جديد، مطعم كبير، محلات ملابس، محلات جوالات، صالونات تجميل.. كأنّ البلاد بلا حرب.

 

خلال جولتي تلك لم أرى أي وجه عبوس، ولم أسمع أي صوت لنزاع، رأيت أثر الحرب في الشوارع والملابس والنقود البالية، لكني لم ألمحها في ملامح الناس، اللذين وإن انهكتهم الحرب بالهموم والمشاكل والديون

تابعتُ المشي وبعد عدة خطوات رأيتُ أمام ناظري خزّاناً كبيراً للماء، الخزّان الذي تتدفق إليه النساء والأطفال وبعض الرجال صباح كل يوم ليملؤوا أوانيهم بالماء الذي يستخدمونه لغسل الملابس وإستخدامات الحمامات والمطبخ، ولجميع إحتياجهم للماء باستثناء الشرب، يجرّون الأواني جرّاً على عرباتٍ صغيرةٍ ذات عجلات أو يحملونها بأيديهم، حين أرى ذلك المنظر في الصباح أتسائل هل نحن حقاً في عام ٢٠١٩؟، يبدو أن عجلة التاريخ هُنا أصبحت تُدار إلى الخلف بدلاً من التقدم إلى الأمام، مشهد كهذا يرسم في مخيلتي منظر أجدادي كما تحكي لي جدتي وهم يذهبون صباح كل يوم إلى البئر لنزح الماء قبل ظهور فكرة الحنفيات وإيصال الماء إلى البيوت.

 

مشيتُ إلى السوق وفي الطريق مررت بسوق القات، لتقع عيني على لائحة كُتِبَ عليها (خذ وهات لأجود أنواع القات، أرحبي، همداني، خولاني)، محلات صغيرة منتشرة يمين ويسار الشارع، ومساحة كبيرة توجد فيها دكاكٌ مبنية، مكانٌ يبدو مظلماً من بعيد، موحشٌ ككهفٍ صغير، تمتلئُ به الدكاك لبائعي القات المتكئين فوقها وقد تورّمت أنصاف وجوههم بالقات الذي يملئ الأكياس المتكومة أمامهم، وتتناثر الأكياس وأوراق القات في كل مكان، بجانب هذا المساحة أيضاً رأيت مساحةً أخرى يبدو أنها جديدة، عليها أبنية صغيرة جداً تبدو كالغرف ملتصقة ببعضها البعض مطلية باللون الأبيض، عليها نوافذ رمادية اللون، بعضها قد فتحت وتجمعت فيها أكياس القات أمام البائعين والبعض الآخر يبدو أنه لم يتم تأجيرها بعد، اذاً حتى محلات القات مستمرة في التوسّع رغم كل شيء.

  

تابعت المشي ووقعت عياني على رجلٍ يجلس على الرصيف متكئاً على حجارة، رجلاه بلا أحذية يملؤهما السواد ليدل على كثرة مشيه حافياً، يتناثر شعره الناعم فوق رأسه بطريقة فوضوية، لا يبدو عليه أبداً أنه منزعج من المكان، بالعكس يبدو غير مبالي، لا أعلم ما يخفيه في دماغه ولا قلبه، لكن يبدو واضحاً أمامي أنه (عايش حياته)، حين تنظر الى المكان الذي يجلس فيه تعلم أنه في اليمن، لكن حين تنظر إلى ملامحه يخيّل إليك أنّه يجلس في عرض البحر في إحدى اليخوت الضخمة التي تطفو على شاطئ ميامي.

 

مررتُ بجانب سيارة تبيع البوظة وتصدح منها كما تصدح أيضاً من الدراجات الهوائية الأخرى التي تجوب شوارع صنعاء كل يوم موسيقى مرفقة بكلمات: (أهلاً أهلاً يا نانا يا أحلى آيسكريم..)، سألته كم سعر البوظة؟ فأجابني وفمه مملوء بالقات: خمسين، فناولته خمسين ريالاً لا أعلم ما إن كانت ستبيت هذه الليلة أم لا لكثرة ما بها من ترهلات وشقوق، حتى هذه الخمسين تكافح لتعيش في هذه البلاد، تحتفظ بقيمتها ودورها في الحياة رغم ما بها من وهن وتعب سنين، الخمسين ريال اليمني تساوي تقريباً عُشر الدولار، أي أنني أستطيع بدولار واحد أن أشتري عشر بوظات، ولكن لا يعني ذلك أننا نعيش في بذخ، فإن كانت الأسعار منخفضة مقارنة ببقية عواصم العالم، فهي ليست منخفضة مقارنةً بميزانية شعب يعيش من دون راتب! وعلى كل حال ليست كل الأسعار منخفضة هكذا كسعر هذه البوظة.

 

وصلتُ السوق وبينما أنا واقفة أمام إحدى البقالات لأشتري زجاجة الماء التي تباع بمائة ريال وقف جانبي طفل صغير يخبرني أنه نازح، ويطلب مني أن أُعطيه بعض النقود، أمثال هذا الطفل أطفال كثيرون اضطروا لمغادرة مدنهم إلى صنعاء والتي تعتبر أكثر أماناً من بعض المناطق الأخرى، أطفال اضطروا لحمل مسؤولية أكبر من سنّهم، ما ذنب هؤلاء؟، هؤلاء الأبرياء الذي لا حول لا هم ولا قوة ولا توجه سياسي، غُصتُ بعدها في الشارع الذي وسط السوق والذي ينتشر حوله البائعون، هناك بائع التمر وهناك بائع الخضراوات، وبائع الأدوات المنزلية، وبائع الذرة المشوية، وبائع الأحذية، كان يفترض أيضاً وجود بائع التين الشوكي (البلص)، لكنّه لم يكن موجود ربما قد انتهى موسمها، ويتردد من إحدى البسطات صوتٌ مسجلٌ يردد: (يا بلاشاه تخفيضات تنزيلات تخفيضات تنزيلات يا بلاشاه..).

 

خلال جولتي تلك لم أرى أي وجه عبوس، ولم أسمع أي صوت لنزاع، رأيت أثر الحرب في الشوارع والملابس والنقود البالية، لكني لم ألمحها في ملامح الناس، اللذين وإن انهكتهم الحرب بالهموم والمشاكل والديون، إلا أنّ لهم نفوساً أوسع من الحرب، وقلوباً تتقارب بعضها من بعض رغم أنف كل الظروف القاسية ورغم أنف الحرب.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.