شعار قسم مدونات

هكذا تحدث ذات يوم ابن رشد عن عصرنا

BLOGS ابن رشد

تحدث ابن رشد عن السّياسة في كتاب المغمور " الضروري في السياسة"، وكثيرا من الأفكار التي طرحها نراها اليوم ماثلة في الواقع العربي، فوحداني التسلط الذي تحدث عنه يبدو أنه لازال حاضرا بيننا ويُمارس سياسته القهرية بامتياز، ويربط ابن رشد وجوده المستمر لعلة للتحوّل، فالإفراط في طلب الحرية يؤدي إلى انقلاب الشيء إلى ضده. ويبدو أن ما حدث في زمن ابن رشد يحدث في زماننا، فوحداني التسلط اليوم يعمل بكل ما أوتي من قوة ليظل في الحكم والسيطرة، ولا يهمه من خالفه أو عارضه، فلقد اخترع أسليب المراوغة وآليات التفرد بالحكم. أما الأسباب غير المباشرة فتكمن في البنية الاجتماعية لأهل المدينة الجماعية، فبعد أن يكثر الإسراف في ممارسة الحرية تضعف بنية الترابط الاجتماعي، فيجد من كان معدنه يميل إلى النَّزعة الثيموسية مؤهل للممارسة القهر والتسلط، ونزع الاعتراف بأحادية التسلط من الرعية. وسنحاول أن نحلل ظاهرة وحداني التسلط وفق الترتيب الآتي:

 

حمل جميع الناس على ناموس واحد

لكي يُثبت للناس أنّه لهم هاد ومرشد، وأنّه حام الشريعة، يحاول أن يوهم الناس أنّه متمسك بأوامر صاحب الشرع:" إنّه يكون من حال هذا الرجل [يقصد المنصور بالخصوص] أن يعمل على حمل جميع الناس ودفعهم ليستمسكوا بالنّاموس حتى يظنوا أنه ليس وحداني التسلط." ولكي يؤكد ذلك، يمارس في بداية حكمه سياسة تقسيم الأموال والطيبات من الأرزاق على رعيته، لكن بعدما يسالم أعداءه ويأمن شوكتهم، يغير سياسته السابقة. يحاول اليوم وحداني التسلط أن يُلزم الناس بدستور معدل، يخدم شهوته للبقاء في الكرسي، ويلجأ دوما إلى تعديله كلما اقتصت الضرورة.

إعلان

 

إشعال الحروب باستمرار

والغرض من إشعال الحرب باستمرار تأمين انشغال الناس بها عن سياسته، ومن ناحية أخرى تؤمن له الغطاء الذي يسلب الناس ممتلكاتهم، وعندما يتحقق له ذلك يغرق أهل مدينته في قضايا القوت والملبس والمسكن، ويصبح الاشتغال بالسياسة أمر ممقوت. واشعال الحروب ليس بالضرورة إعلان الحرب، فكثير من الحروب المعلنة اليوم هي حروب وهمية.

 

ممارسة سياسة التطهير السياسي

بعدما يتقوى على أعدائه، يبدأ في تتبع كل من يمتلك أموالا عظيمة، محاولا تطهير المدينة منهم، حتى يأمن قوتهم:" ولذلك يستعمل كل ما في وسعه لمعرفة هؤلاء، أعني أصحاب القهر والشجاعة والعظمة من بينهم، فيتآمر عليهم إلى أن يُطهر المدينة منهم." ويعترض ابن رشد على مصطلح التطهير الذي استعمله أفلاطون، وحاول أن يضعه في إطاره الصحيح، فهو ليس تطهيرا بالمعنى الأمثل للكلمة، كالذي يمارسه الطبيب عند معالجة الأجسام أو الفلاسفة في تدبير المدن، بل هو تطهير سياسي خبيث.\

   

    

المغالبة بغير أهل مدينته

إن ابن رشد نتيجة صحبته للمنصور، استطاع أن يعرف نفسيته، وأن يوافق ما اكتشفه ابن رشد من خلال التجربة الشخصية ما قاله أفلاطون في متنه القديم، فالطاغية يعلم أنّه مكروه ممقوت في مدينته، لهذا فإن المغالبة تفرض علية الاستعانة بقوم خارج مدينته، فيجعلهم محل ثقته، فيزداد طغيانا بهم، ويزدادوا هم جورا وظلما لأهل المدينة:" وإنّما يتهيأ له هذا إذا اتخذ قوما أشرارا غرباء من غير أهل المدينة، ويأتي بهم من كل فج إذا ما وفر لهم العطاء." وواضح أن أغلب مدن الأندلس والمشرق كانت تمارس هذه السياسة، فلقد استعان سلاطين بني العباس بالأتراك والسلاجقة، واستعان أهل الأندلس تارة أخرى بالمولدين. ونلاحظ اليوم أن وحداني التسلط في كثير من الدول العربية يستعينون بالغرباء، والمليشيات الخارجية لترويض شعوبهم، ما حدث في سوريا خير دليل على الاستعانة بالأجنبي من أجل البقاء في السلطة.

إعلان

   

خذلان سادة المدينة

يكتشف سادة المدينة أنهم أخطأوا حين سلموا الرئاسة له، فيحاولون إخراجه من المدينة، لكن الطاغية يعمل على التنكيل بهم شر التنكيل، والطاغية والمستبد بطبيعته يستعمل كل الطرق والوسائل للوصول إلى أهدافه الخسيسة، وكما يقول ابن رشد فهو لا يتورع عن قتل أقرب الأقرباء إليه كابنه وأبيه وعمه، يصف ذلك ابن رشد في قوله:" وهذه الأعمال هي جميعا من أعمال رئاسة وحدانية التسلط، وهي شيء بين في أهل زماننا هذا ليس بالقول فحسب، ولكن أيضا بالحس والمشاهدة."  ولعل ابن رشد يقصد بالمشاهدة ما فعله المنصور بعمه وإخوته، وكل من ظن أنهم يعملون على الإطاحة به. وهو نفسه ما سيصيب ابن رشد لاحقا أي النكبة.

  

إن أسوء الأنظمة في رأي ابن رشد هي التي تقوم على الطغيان والاستبداد، لأن نتائجها ستكون على النحو التالي:

1- مصادرة الفكر وتعطيل الشرع وكبح العقل، مما يؤدي إلى يأس الحكماء من الاجتماع الإنساني، كما حدث لابن باجة وابن الطفيل. وما يحدث اليوم في الأوطان العربية من هجرة سواء سرية أو مباشرة، لدليل على أن مصادرة الفكر والحرية يؤدي إلى اليأس والقنوط.

 

حداني التسلط صار أكثر ذكاء ودهاء من سابقيه، وأحكم قبضته على شعبه بالوسائل المعاصرة، وأدخل الأمة في صراع وهمي مع طوائفها ومذاهبها وأعراقها، وخَوّن سادتها وعلماءها، واغتال أحرارها وأشرافها

2- زوال الحرية التي كانت شعار المدينة الجماعية قبل رئاسته، وبروز العبودية المطلقة.:" وجلي أن هذه المدينة [أي قرطبة] في غاية العبودية وأبعد ما تكون عن الحرية." ونلاحظ أن الدول بعد موجات الربيع العربي أصبحت أكثر طغيانا وقهرا، وفقدت الشعوب تلك الحرية النسبية.

 

3- تحول نفس الرئيس إلى نفس مريضة، تعزوها الكراهية للآخرين، كما يمتلكه الحسد والحقد.

 

4-يمارس سياسة العزلة داخل قصوره، فلا يغادرها أبدا، وحاله كما قال ابن رشد كحال المرأة في بيتها.

 

5-أن جميع أهل مدينته يكرهونه، ولا يبادلونه حبا ولا وفاء، ويسقط ابن رشد هذه الظاهرة على أهل قرطبة تجاه المنصور: " فإن نهج المتسلط هو نهج الذي هو في غاية الجور، لأن ذلك في غاية التناقض مع ما عرفنا من قبل أنه الأمر الصحيح، كما هو الحال في هذه المدن [ الأندلس]."

إعلان

  

6- انتشار ظاهرة الفقر في أوساط أهل المدينة، والفقر فقران: فقر مادي نتيجة عدم امتلاكهم الأموال، وفقر معنوي نتيجة افتقادهم الفضيلة، ويشارك المستبد في النوع الثاني من الفقر:" فكذلك النفس المتسلطة هي فقيرة ليس لها ما يشبع."

  

7- انتشار الرعب والإرهاب من قبل طرفين، فالطرف الأول هو الرئيس المستبد، أما الطرف الثاني فئة الزنابير التي تحدثنا عنها سابقا، والتي تلجأ إلى قطع الطرق وامتهان الصعلكة:" وخرجوا من المدينة يقطعون الطرقات ويسلبون الناس نفوسهم وأموالهم." وهذا لا يعني أن الرئيس لا يكون مرعوبا، بل هو أشد الناس رعبا في المدينة نتيجة عدم ثقته في الناس أجمعين:" وكما أن هذه المدينة في غاية الرعب فكذلك المتسلط."

  

نلاحظ بعد ما أنهينا التحليل، أن ابن رشد أكثر في شرحه من وصف وحداني التسلط، نظرا لما رآه من سلوك الأمير، وحالنا اليوم كحال ابن رشد، فوحداني التسلط صار أكثر ذكاء ودهاء من سابقيه، وأحكم قبضته على شعبه بالوسائل المعاصرة، وأدخل الأمة في صراع وهمي مع طوائفها ومذاهبها وأعراقها، وخَوّن سادتها وعلماءها، واغتال أحرارها وأشرافها، وهجر شبابها بالتضييق، فكان البحر قبرا لهم، والآخر موطنا لهم، فتبا لوحداني التسلط حين يسرف في الحكم باسم الديمقراطية والدستور، وتبا أيضا لمن يصفقون له ويمدحونه، بل ويعبدونه.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان