إبان انتفاضة الأقصى وفي ذروة تنفيذ الطيران الحربي الإسرائيلي عمليات اغتيال غادرة في الضفة الغربية وقطاع غزة، وما ينتج عن هذه الجرائم من ضحايا أبرياء من عابري سبيل وقد يكون بينهم نساء وأطفال يتحولون إلى أشلاء مبعثرة بفعل ضغط طيار إسرائيلي زرا تنطلق إثره صواريخ وقنابل مطعمة باليورانيوم المستنفذ، ناهيك عن الجرحى والمشوهين.. إبان ذلك قدّم بضع وعشرون طيارا حربيا مذكرة يعلنون فيها رفضهم القاطع تنفيذ عمليات قصف في المناطق الفلسطينية، وبرروا ذلك بأن هذه العمليات التي تطال مدنيين غير أخلاقية.
وأتذكر أن الشيخ د. يوسف القرضاوي قد أشاد بهذا الموقف الذي اتخذته تلك المجموعة من الطيارين، وموقفهم فعلا يستحق التقدير، مع العلم أن الموقف الأفضل هو أن يتركوا بلادنا ويعودوا من حيث أتونا، وجدير بالذكر أن من بينهم العميد طيار (يفتاح سبكتور) الذي شارك في قصف مفاعل تموز العراقي في سنة 1981م. ولكن مع ذلك استمرت عمليات القصف بالطيران المروحي والحربي على أهداف مختلفة وراح ضحية القصف كثير من المدنيين؛ بل أمعنت إسرائيل في استهداف المدنيين لدرجة أن عائلات مسحت بالكامل من السجل المدني في قطاع غزة جرّاء القصف الإسرائيلي في صيف 2014 يضاف لها حالات تشوّه وبتر لأطراف مواطنين من مختلف الفئات العمرية؛ فموقف تلك المجموعة من الطيارين لم يتحول إلى ظاهرة وإلى عصيان جماعي لأوامر القادة، وبقي موقفا معزولا يخص أفرادها فقط!
الغرب هو الداعم المساند للاستبداد وللحكام الطغاة في المنطقة، وهو من يمنحهم الشرعية، ويشجعهم على قهر شعوبهم ونهب ثروات بلادهم التي لا يتسع المجال لذكر أهميتها |
ونعيش هذه الأيام ذكرى (راشيل كوري) وهي فتاة أمريكية عمرها 24 عاما قضت نحبها دهسا بوحشية جرافة عسكرية إسرائيلية أثناء محاولتها منع هدم منازل مواطنين فلسطينيين في رفح جنوب قطاع غزة (آذار/مارس 2003) ضمن نشاطها التضامني مع الشعب الفلسطيني؛ ومع أن الضحية يهودية وأمريكية، فقد ذهب دمها هدرا، فلا المؤسسات الرسمية الأمريكية قامت بشيء حقيقي وملموس لمحاسبة أو حتى مجرد توبيخ القتلة، وهذا ينسحب طبعا على إسرائيل، ولا تغيرت طبيعة الولايات المتحدة القائمة على دعم إسرائيل دعما مطلقا لدرجة صارت العلاقة بين الكيان العبري والدولة العظمى الأكبر وكأنها علاقة عضوية لا وظيفية تعاقدية!
وبعيد مجزرة الجمعة في مسجد النور في نيوزيلندا رأينا كيف هرع مواطنون من غير المسلمين لوضع الزهور في محيط المكان، وأعربوا عن تضامنهم وصدمتهم من الجريمة البشعية، وهذا انسحب على المستوى الرسمي بمن فيهم جهاز الشرطة الذي تعمل فيه امرأة مسلمة.
والحقيقة أن نيوزيلندا بعيدة عن متابعة واهتمام منطقتنا، فلا يعرف غالب الناس عنها إلا لحومها التي يدور جدل حول هل هي حلال ووصلت بعد ذكاة سليمة شرعية أم لا، ويضاف لهم من يحلم بمعيشة أفضل من حيث المهنة والدخل، إضافة إلى الهدوء الذي يتسم به هذا البلد الأبعد جغرافيا عن منطقتنا.. وفي ذات السياق رأينا شابا يقذف بيضة ضد سناتور أسترالي عنصري يجاهر بعداوته للإسلام والمسلمين، والشاب والسناتور من أستراليا وهي الدولة/القارة التي يفترض أنها بعيدة بحكم الجغرافيا وغيرها عن صراعات المنطقة، ولكنها تحضر لأكثر من سبب؛ فمؤخرا اعترفت بقرار ترمب اعتبار القدس عاصمة للكيان الصهيوني، والذاكرة العربية والإسلامية والفلسطينية، لم تمسح منها جريمة إحراق المسجد الأقصى التي نفذها مجرم أسترالي (روهان) صيف 1969 والآن يأتي الأسترالي (برينتون تارانت) ليقتل مصلين آمنين في نيوزيلندا التي حالها كما ذكرنا بخصوص السياسة والتحريض الديني فهي بعيدة عنه.
وعلى كل فإن أستراليا شهدت وتشهد فعاليات تستنكر هذه الأفعال والمواقف العنصرية، ومنها موقف الشاب (ويل كونوللي) الذي قام بقذف البيضة على السناتور العنصري، وغرد على تويتر برفضه اعتبار المسلمين إرهابيين. الاستعراض السابق يقودنا إلى فكرة يدور حولها جدل وقد تمثّل في مراحل معينة حالة استقطاب داخل الأوساط العربية والإسلامية؛ وهي هل الغرب عنصري معاد للإسلام والمسلمين، أم أن الغرب عموما إنساني نبيل، فتح أبوابه للمهاجرين من شتى الديانات بمن فيهم المسلمين، وسمح لهم بإقامة المساجد والعيش والعمل بحالة أفضل مما كانوا فيه في بلادهم، وأن العنصريين ومن يشعلون موجات الإسلاموفوبيا هم الشواذ لا القاعدة، ويسوق لك أمثلة منها ما ذكرته سابقا.. فأين الحقيقة؟
ولقد تعمدت أن أبدأ بإسرائيل، لأنها جزء من المنظومة الغربية، فكرة وتأسيسا ودعما وتسليحا ونموذج حياة عموما؛ فطبعا لا يمكن أن نقول أن إسرائيل تحولت إلى دولة يغلب عليها طابع السلام والرحمة، بما في ذلك ضباط الطيران الحربي.. وأساسا من حيث مبدأ وجود إسرائيل فوق أرض فلسطين المغتصبة، هو عار يلطخ الادعاء الأخلاقي للحضارة الغربية المعاصرة، وجريمة متواصلة لم تتراجع عنها، فكما اعتذروا أو لنقل أبدوا ندما على جرائمهم بحق الهنود الحمر، والأفارقة الذين جلبوهم إلى مستعمراتهم واستعبدوهم، فإنهم بإصرارهم على حق إسرائيل في الوجود، ولو كدولة عادية، يواصلون الجريمة الفظيعة؛ فكيف وهي دولة مسلحة حتى أسنانها بأحدث السلاح الأمريكي، وهي التي تقوم على احتلال أرض شعب آخر، وتواصل قتله وتهجيره، وتضع عينها، وحاليا يدها على مسجده الثالث من حيث القداسة والاعتبار؟!
إن الراحلة البريئة المغدورة راشيل كوري ليست هي من يمثل أمريكا، ولم ير الشعب الفلسطيني وجها مثل وجهها يعطيه صورة أخرى عن أمريكا إلا في ذلك الوقت الذي جاءت فيه لتدهس بجرافات جيش يحمل أفراده بنادق إم16 التي تطلق رصاصها القاتل على الأطفال، وطائرات إف16 وأخواتها التي تحيل بيوت المواطنين إلى ركام ومن يسكنها إلى قطع لحم ممزق محترم، ونعرف قنابل غاز خانق وعليه العلامة المميزة (Made in USA) ليس هذا فقط، بل حتى القيود المعدنية (الكلبشات) التي يقيد بها المعتقل الفلسطيني فإن ما تقيد بها اليدان (Made in USA) وما تقيد بها القدمان(Made in ENGLAND) أو العكس وبكتابة واضحة جدا؛ وكأنه يقال للمعتقل: أنت مقيد بالحديد الأمريكي والبريطاني.. أمريكا الداعم المالي والعسكري والسياسي حاليا؛ وبريطانيا صاحبة وعد بلفور وصك الانتداب الذي جعل فلسطين ضحية للهجرة اليهودية المشؤومة.
إن إقامة إسرائيل واستمرار وجودها قد خلق في المنطقة أزمات سياسية واقتصادية واجتماعية وأخلاقية متوالدة ومتواصلة، وتسبب في كثير من المشكلات العميقة عند شعوبها؛ أو عند شعبها الذي صار شعوبا بفعل التقسيمات الأوروبية الاستعمارية. وأيضا فإن هذا الغرب هو الداعم المساند للاستبداد وللحكام الطغاة في المنطقة، وهو من يمنحهم الشرعية، ويشجعهم على قهر شعوبهم ونهب ثروات بلادهم التي لا يتسع المجال لذكر أهميتها، وكيف أنها تكفي وتفيض، فيعيش الناس في قهر وفقر وذلّ، مما يضطر من يستطيع أن يفر من جحيم بلاده إلى (جنة) الغرب بأية طريقة كانت.. ثم يأتي من يقول لماذا تذهبون إلى بلادهم؟
ولا يصدّر لنا الغرب ما فيه من تداول سلمي للسلطة وتوزيع عادل نسبيا للثروات؛ بل يدعم حركات التنسون، ويدفع باتجاه تفكك النظام الأسري عندنا، ويريد ويسعى إلى تحويل الشذوذ في بلادنا إلى سلوك قانوني وطبيعي! وحاليا نرى أن الغرب صار يمينيا شعبويا تتكاثر فيه المظاهر العنصرية، وما مجزرة الجمعة إلا نتاج هذه الظاهرة.. وبالتالي فإن كل المظاهر الإنسانية من الغرب تجاهنا، تشبه نوعا ما حالة (المطعم بن عدي) مع المحاصرين في شعب أبي طالب؛ أي الاستثناء لا القاعدة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.