لم تعُد نيوزيلندا في وعي عالمها بلداً منزوياً بهدوء في أقصى الأرض، وهذا منذ أن تلطّخ اسمها وصورتها بواقعة القتل الجماعي ومشاهد الفتك بالبشر المسالمين في أروقة طاهرة. لم يبدأ المشهد الدموي مع لحظات قاد فيها "رجل أبيض" سيارته الصغيرة في شوارع كرايست تشيرتش الخالية من المارّة، برفقة بنادقه الألية المكللة بالشعارات. فما بثّه الإرهابي من مَشاهِد عبر الشبكة كان في حقيقته طوْراً متأخِّراً سبقته أطوار متراكمة وتفاعلات متضافرة، ينبغي التنقيب عنها بعناية ودفع الضالعين في إذكائها إلى نطاق المساءلة.
لم يخلع برينتون تارانت حذاءه عندما اندفع إلى "مسجد النور". استقبله أحد المسلمين بعبارة التحية الودودة "هالو براذر"، فجاء الردّ المسموع بوابل من رصاص أفرغ أمشاطه في رؤوس المصلين وأبدانهم. صال الإرهابي في قاعات الصلاة وغرف المسجد الجانبية بحثاً عن أنفاس حيّة بين أكوام الضحايا، وأقدم على تفجير الرؤوس في طريقه بمزيد من الطلقات.
خلف الاعتداءات المتزايدة المشهودة على المسلمين والمساجد والمرافق الإسلامية في أوروبا وبلدان "غربية"، مسار ممتدّ من التفاعلات أفضت إليها؛ يبدأ بفكرة انتقائية هي مبعث الشرور؛ يتبعها خطاب تحريضي يُباح به جهراً |
خرج من المسجد على ساقين تعرفان وجهتها المقبلة، فأدرك مسلمة جريحة ممدّدة على قارعة الطريق تستنجد به، بحسبانه عابراً من المارّة، فاستجاب لاستغاثة "هيلْبْ مي .. هيلْب مي" بصلية رصاص غادرة في رأسها صبغت الرصيف بفتات الدماغ المخضّب بالدم. ثمّ استقلّ الإرهابي سيارته بلا تردّد، وسحق بعجلاته جسد الشهيدة، وسوّى بها الأرض بدم بارد، بعد أن أنجز ما حسبها مهمة تاريخية مشبّعة بروح الثأر، حمل مشاهدها إلى العالم مع ما اختاره من مقاطع غنائية وموسيقية لإضفاء الرمزية التي ينشهدها على الحدث.
أفاقت البشرية فجر الخامس عشر من مارس/ آذار 2019، على مجزرة البث المباشر التي شوهدت من خاصرة الأرض الجنوبية الشرقية. شاهد مئات ملايين البشر في سويعات معدودة مذبحة مروِّعة تنتفض لها الأبدان، اقترفها إرهابي عنصري في مسجديْن اثنيْن، مع حشود الذين عاشوا في مدينة ظلّت هادئة حتى مشهدهم الأخير فيها من يوم الجمعة.
توفّرت للاعتداء على مسجديْ كرايست تشيرتش بنادق وذخائر وشعارات متزاحمة، وفي حالات أخرى تمّ استهداف المساجد بعبوات حارقة، أو بأدوات للتحطيم والتكسير، أو بمواد للتشويه والإساءة، مع شعارات شبيهة أيضاً. صار العدوان على المساجد تقليداً متكرِّساً في بلدان عدّة على جانبي الأطلسي، وبحصيلة قاتلة أحياناً، بما لا يجعل واقعة كرايست تشيرتش حدثاً استثنائياً أو معزولاً، ولهذا كله خلفيات تراكمية تقتضي الفحص والتحرِّي.
لا تهبط هذه الهجمات من كوكب آخر، فهي نتيجة خاضعة لمقدِّمات منعقدة في الرؤوس تحرِّض على ارتكاب مزيد من التعدِّيات واقتراف ألوان أخرى من الفظائع بحق الأبرياء. يبدأ الأمر في ثقافة الإرهاب والترويع العنصري هذه مع مفهوم استثنائي يُسقِطه أصحابه على بشر محدّدين أو معالم معيّنة أو مظاهر مخصوصة؛ فيُعاد التعريف بحق كل منها بما يخدم سردية المعتدي ومن لفّ لفّه. لم يكن ما جرى في كرايست تشيرتش ليجري لولا أنّ عينيْ الإرهابي المندفع لم تريا المسجد داراً للعبادة؛ ولم تُبصِرا المصلين بشراً مثل غيرهم، أمّا المسلمة التي فجّر دماغها على الرصيف بدم بارد فلم يعدّها في وَعيِه امرأةً أو فتاةً كغيرها من النساء.
خلف الاعتداءات المتزايدة المشهودة على المسلمين والمساجد والمرافق الإسلامية في أوروبا وبلدان "غربية"، مسار ممتدّ من التفاعلات أفضت إليها؛ يبدأ بفكرة انتقائية هي مبعث الشرور؛ يتبعها خطاب تحريضي يُباح به جهراً أو يُتداول همساً وتجري به الركبان في الشبكات؛ بما يُطلِق العنان للإقدام على فعل ما أو الاجتراء على إجراء محدّد. إنها سيرة العنصرية الانتقائية التي تنشأ ابتداءً مع تصوّرات تروِّج لها سرديات وخطابات، ثمّ يشتدّ عود الفكرة المُفتعَلة مستعينةً بالتشويه والتحريض إلى حدّ الشيطنة، بما يمهِّد لانتهاكات عملية تتعاقب على ضحاياها بأشكال متعددة.
تنشأ هذه العنصرية الانتقائية من تصوّرات محدّدة في الغالب؛ يجري في طوْرها التأسيسي تنميط مجموعة بشرية أو ما يتعلّق بها، واعتبارها استثناء عن المجتمع أو السياق الإنساني الجامع. يحتضن هذا المنطق المُغالي بذورَ التفرقة، وقد تُستَنبَت منها تطوّرات جسيمة تنتهي بمذبحة في أقصى الأرض مثلاً. فالنزعة الانتقائية تمارس الاستثناء المُجحِف بحقِّ فئة بعينها دون غيرها، أو تنتزع بشراً أو أشياء أو موضوعات من سياقاتها، دون أن يسري ذلك على المكوِّنات الأخرى في المشهد المجتمعي أو الإنساني.
تتمثّل المعضلة التأسيسية، إذن، في منحى الانتقاء والاستثناء، مع الإمعان في إسقاط تفسير خاطئ أو مشوّه أو استثنائي على جزء بعينه من المجتمع أو البشرية دون سواه، أو على ما يرتبط به أو يعبِّر عنه من مظاهر وتعبيرات مرئية. لهذا التفسير الاستثنائي تبعاته ومضاعفاته التي تظهر على هيئة تشويه أو تحريض أو شيْطنة. فمن يتمّ النظر إليهم على أنهم استثناء سلبي دون غيرهم؛ يجدون أنفسهم بسهولة في مرمى نيران الأحقاد التي تستهدفهم بشكل معنوي أو مادي؛ بمفعول قاتل أحياناً.
لا يمكن فهم ما جرى في نيوزيلندا بحق المسلمين بمعزل عن عملية الشيطنة ونزع الصفة الإنسانية التي تصبّها خطابات متصاعدة على مسلمي الأرض عموماً بصفة صريحة أو إيحائية، فهي نتاج تعريفهم بشكل انتقائي، أو حصيلة اعتبار دينهم وثقافتهم استثناء يستدعي الاشتباه والريبة. أغرى هذا المنحى، في حالات عدّة، بتسويغ استبعاد المسلمات والمسلمين من امتيازات وحقوق وحريات كانت في الأساس مكفولة للجميع، فتمّ بهذه الحيلة اختصاص المكوِّن المجتمعي المسلم بقوانين مُجحِفة وإجراءات خاصّة؛ حتى في فضاء أنظمة ديمقراطية.
مع تفاقَم هذا المنحى الاستثنائي تتطوّر الحالة من التصوّرات والمفاهيم إلى مستوى التجاوزات العملية. ففي المستوى التطبيقي تتجلّى شواهد الانتهاكات أو التضييقات أو ممارسات التفرقة بصفة عملية أو إجرائية. تنبثق عن هذا المستوى التطبيقي تطوّرات وتداعيات في شكل إجراءات ووقائع، أو قد تأتي في الفضاء التشريعي عبر سنّ قوانين موجّهة بشكل خاصّ ضد مجموعات مجتمعيّة محدّدة أو ضد فئات أو مكوِّنات يتم استثناؤها من المشهد المجتمعي العام للشعب، وقد يكون الفتك والذبح والعدوان خياراً يلجأ إليه مَن تشبّعت رؤوسهم بمقولات التحريض.
لم يرَ إرهابي كرايست تشيرتش مئذنة "مسجد النور" برجَ دار عبادة كغيره من الكنائس والمعابد، فقد تراءت في عينيه تعبيراً توسّعياً ورمزاً للتهديد، وعدّ المصلين الأبرياء غزاة ينبغي اجتثاثهم عن آخرهم، أو هكذا تقريباً. تُحاكي مشاهد الاقتحام الذي قدّمه للعالم عملية مداهمة لأوكار المسلّحين، رغم أنّ فعله الجبان لم يُواجَه بأي مقاومة أساساً.
إنه المفهوم الاستثنائي السقيم ذاته الذي عبّرت عنه خطابات متطرِّفة في بلدان عدّة، كما حصل ضمن سياق آخر في تجربة سويسرا مع مآذنها. فعلى نحو استثنائي من أبراج دور العبادة المتنوِّعة؛ تم تأويل برج محدّد منها، هو المئذنة، على أنه استثناء يحمل دلالات تهديدية. لم يُعتبَر المسجد داراً للصلاة كمعابد الطوائف الأخرى، وذهب التأويل الاستثنائي إلى اعتبار مئذنته عدواناً على الهوية والثقافة وشعاراً توسّعياً ورمزاً للسيطرة، وهو ما قيل تماماً.
على هذه الخلفية أطلقت أوساط يمينية متطرفة في سويسرا حملات تأجيج ادّعت فيها أنّ المآذن "رمز سياسي وعسكري"، وقيل إنها "كناية عن السيطرة على أرض"، كما ورد في حملات مضادة للمآذن تحرّكت في سنة 2006، وصيغت فيها حجج محبوكة بعناية، مع إغراق في مواد التضليل الجماهيري المخصصة لحشو الرؤوس بالعبارات الساذجة، وهو ما تكرّر في بلدان أوروبية أخرى.
بدأ المسار من إسباغ تصوّر استثنائي على المآذن، ثمّ الانتقال من الاستثناء إلى التشويه والتحريض والتعبئة المكثفة، وصولاً إلى مرحلة الإجراءات العملية المتمثلة بمَطالب الحظر التي انجرفت معها أغلبية السويسريين الذين تمّ استدعاؤهم في سنة 2009 إلى صناديق الاقتراع؛ في استفتاء شعبي عام لحظر المآذن في بلاد الجليد والشوكولاتة إلى الأبد. كان تصويتاً فظّاً على الحقوق والحريات الدينية الأساسية المتعلقة بأقلية دينية محددة، انتهى بموافقة "الأغلبية" على القضم من حقوق "الأقلية"؛ التي وقع ازدراؤها وتشويهها والتحريض ضدها.
ما كان لهذا التدحرُج وأشباهه في حالات أخرى أن يقع لولا استنبات مفهوم استثنائي تمّ إسقاطه على المئذنة مشبّعاً بتأويلات مُخيفة لدلالتها، ففي التصوّر العالق في بعض الرؤوس يكمن مَنبت التشويه، وعنه تتفرّع حمّى الكراهية ودعاية الأحقاد اللتان تفعلان فعلهما في مجتمعات البشر.
لا ينفكّ هذا في حقيقته عن قوالب نمطية متقادمة تنضح بأحكام مُسبقة وصوَر كريهة استقرّ بعضها في الذاكرة الجمعية منذ العصر الوسيط، فيجري إحياء مفاهيم دفينة وإنعاشها بأشكال جديدة؛ وبهذا لم يكن مستغرباً أن ينقش برينتون تارانت شعاراته المحمولة من قرون خلت على قطع السلاح وأمشاط الرصاص التي اقترف بها مذبحته المروِّعة
شاركت في إذكاء بواعث المذبحة أصواتٌ وأبواقٌ وأدوارٌ ومؤسّسات؛ بما لا يجعلها في سياقها العام حدثاً معزولاً أو واقعة محلية عابرة، فكيف بها وقد جاءت مرئية للعالم أجمع في الزمن الشبكي. ينبغي الإقرار بأنّ استهداف المساجد بالتضييق أو الحظر، أو باعتداءات الإحراق والتحطيم والتشويه، وهو ما يقع بصفة شبه أسبوعية في أوروبا، أو حتى بأعمال القتل والمذابح الجماعية كما جرى في نيوزيلندا، هو من شواهد المستوى التطبيقي الذي ترتِّب على مستويات أسبق تمّ التهاوُن معها واستمراء مقدِّماتها على أعلى المستويات في عالمنا.
إنّ مساءلة الضالعين في إنتاج شروط المذبحة لا يصحّ بها أن تغفل عن خطابات تصعيدية تستعملها قيادات سياسية ومجتمعية ودينية في عالمنا، منحت الانطباع للجماهير بأنّ المسلمين خطر جسيم وتهديد ماحق، ولم يتورّع بعضهم عن لوْم الضحايا وتحميلهم مسؤولية الفاجعة التي أجهزت عليهم، كما فعل السيناتور الأسترالي فريزر أنينغ؛ وأمثاله كثُر في عالمنا ممن لم يتم التعرّض لهم بالمساءلة أو رشقهم بالبيض على الأقل.
واقع الحال أنّ العالم تهاوَن مع صعود سياسيين شعبويين إلى مواقع صنع القرار على جانبي الأطلسي، بعد أن خاضوا حملات انتخابية ازدرت المسلمين وحرّضت ضدهم لأهداف رخيصة، وجعلت بعض التعبيرات المتحاملة مستساغة إن اختصّت بالمسلمين.
من التجارب المشهودة في أنحاء أوروبا، إسقاط مفهوم استثنائي على أنواع معيّنة من اللباس، فتخسر قطع القماش هذه صفتها الاعتيادية وتصير موضوعاً لسجالات متأجِّجة ومزايدات ساخنة على الملأ. هكذا تدحرج النقاش بشأن أغطية رؤوس النساء والفتيات عبر مواسم الجدل إلى أتون المعارك الانتخابية وتجاذبات السياسيين الانتهازيين، بما ترتّب على ذلك من قوانين وإجراءات من جانب، وممارسات عدوانية وإهانات من جانب آخر، أوقعت ضحايا من المسلمات أحياناً.
فعندما يتسلّل التشويه إلى جدول الأعمال السياسي والإعلامي والثقافي، قد يتطوّر الموقف بسهولة إلى مستوى الإجراءات العملية، مثل حظر بعض قطع القماش وإيقاع العقوبات على من يرتدينها، وهو مسار عرفته دول أوروبية خلال القرن الحادي والعشرين، بينما يمارس عنصريون متعصِّبون اعتداءات مادية ولفظية جبانة على نساء وفتيات مسلمات في الطرقات ووسائل النقل العام بدافع من المفاهيم ذاتها التي ينطق بها سياسيو التحريض.
إنّ بذرة التفرقة التي تمّ استنباتها تمثّلت في هذه الحالة بتصوّر استثنائي لم يَرَ غطاء الشعر قطعةَ قماش، بما حرّض على استثناء رؤوس الفتيات المسلمات من رؤوس البشر جميعاً، وإخراج اختياراتهن من عموم السياق المجتمعي والإنساني العام، فتمّ اعتبار "الفولار" في فرنسا خروجاً منبوذاً على "قيم الجمهورية" الفرنسية لا ينبغي التهاون معه، كما عبّر عن ذلك الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك في خطاب ألقاه بهذا الخصوص في سنة 2004 من الإليزيه.
تم خلال العقود الماضية إسباغ تفسيرات مشوّهة ومضلِّلة على رقعة القماش تلك بزعم أنها "رمز جنسي" أو "ذكوري" أو "علامة اضطهاد" وغير ذلك من التأويلات المقيتة. ثمّ توالت التفاعلات بنتائجها المعروفة التي زجّت بقطعة قماش معيّنة دون غيرها في مداولات إعلامية وثقافية ساخنة امتدّت إلى المجالس البلدية والبرلمان والحكومة والمحاكم، وصولاً إلى فحص الرؤوس في الطرقات وعند أبواب المدارس بشكل مثير للغثيان لضمان التقيّد الصارم بـ"قيم الجمهورية" والمنظومة التشريعية التي تتذرّع بها.
لم يلحظ القوم أنّ تاريخ 15 مارس/ آذار الذي شهد الفتك بامرأة على الرصيف سترت شعرها، خلال مجزرة نيوزيلندا، يوافق تماماً الذكرى السنوية الخامسة عشرة لسنّ قانون فرنسي يحظر على الفتيات المسلمات ستر شعورهنّ في المدارس العامّة، وهو قانون أطلق من بعده سلسلة قوانين وإجراءات وممارسات ذات طابع تمييزي في فرنسا وأوروبا. تتفرّع الحالتان عن مفهوم استثنائي تم إسقاطه على قطعة قماش ترتديها مسلمة؛ بما قضى بحرمانها من بعض مشمولات الحقوق والحريات العامة؛ في حالة فرنسا، ومن مقتضيات الحقّ الأصيل في الحياة والكرامة الإنسانية؛ في حالة كرايست تشيرتش.
ما يؤكد الحاجة إلى قرع نواقيس الخطر قبل مذبحة نيوزيلندا وبعدها؛ أنّ سوق التأويلات الاستثنائية المضادة للمسلمين تشهد رواجاً متزايداً في أوروبا وأقاليم محسوبة على "الغرب". فاعتبار "آخرين" استثناء سلبياً عن سياق عام، كفيل بأن يشقّ مسالك الإقصاء والتفرقة والتعدِّيات، بما يجعل تشكيل المفهوم الاستثنائي طوْراً تأسيسياً له ما بعده من مضاعفات جسيمة. فعندما شبّه بعضهم المئذنة بالصاروخ، أو باشروا تأويل أنواع من لباس المسلمات على أنها احتقار وتهديد، واستثنوْا الأئمّة من أقرانهم القائمين على الشعائر الدينية الأخرى أو مَن يُسمّون "رجال الدين"؛ كان لهذا كلّه وما لفّ لفّه تداعيات جسيمة من التشويه والتحريض وصولاً إلى مستوى تطبيقي تبدو شواهده حاضره في مجالات شتى.
ولا تنقطع الشواهد، ومنها تفاقُم الاشتباه في الصدقات والأموال الخيرية التي يبذلها المسلمون، وإثارة الشكوك بشأن تأثير صيامهم على أداء الأعمال والوظائف بما يقضي بحرمانهم منها، واعتبار اللحم الحلال مخالفاً للمواصفات والمعايير التي ينبغي التقيُّد بها، وإخراج ختان الأولاد عن القانون، علاوة على تمادي بعضهم في حجب صفة الدين ذاتها عن الإسلام أو وصفه بالأيديولوجيا ونعته بالإرهاب. لهذه المفاهيم الاستثنائية تبعاتها ومضاعفاتها التي تتفاقم في تفاعلات التشويه والتحريض والشيْطنة المتفاقمة، بما يصل إلى حدّ نزع الصفة الإنسانية عن المسلمين بتعبيرات صريحة أو إيحائية، وهو ما يُغري باستسهال الفتك بهم، بالطريقة التي أقدم عليها برينتون تارانت أو بغيرها.
ثمة علاقة تراتبية، إذن، بين مستويات ثلاثة: المفهوم الاستثنائي، وما يترتب عليه من التشويه والتحريض، ثمّ الانتهاكات العملية الحاصلة بموجب ذلك. فعندما يبادر بعضهم إلى التعبير عن مفهوم استثنائي سلبي بمنحى تمييزي؛ فإنهم يفتحون الباب على مصراعيه للتشويه والتحريض، ثمّ يأتي ثالثاً المستوى التطبيقي بفرض قوانين وإجراءات تمييزية مثلاً، أو باقتراف اعتداءات مادية أو لفظية تستهدف من تمّ اعتبارهم استثناءً عن المجتمع والإنسانية، أو بالتوجه إلى الاقتراع على حقوق يُفترَض أن تكون مكفولة للجميع.
يعني هذا أنّ التدخّلات الوقائية لا تحقق جدواها في الأطوار المتأخرة، وإن أخذت على يد مهاجِم مسلّح يهمّ بتنفيذ مذبحة أو درأت محاولة تصويت برلمانية على قانون تمييزي. فإن لم يقع التداعي إلى قرع نواقيس التحذير وكبح هذه الانزلاقات في أوقات مبكِّرة؛ ستتمكّن الظواهر المقيتة من ترسيخ أقدامها أكثر فأكثر وتفعل فعلها بتسميم الأجواء المجتمعية والانتقاص من القيم الأساسية والمبادئ المشتركة التي تنصّ عليها المواثيق والدساتير؛ أو بتعطيل عملها جزئياً بالأحرى كي لا تشمل فئات مخصوصة وإن بقيت اللافتة الديمقراطية البرّاقة مرفوعة.
تواجه مجتمعات الحاضر مخاطر الانزلاق إلى أزمة أخلاقية عميقة إنْ هي استسلمت للتأويلات الاستثنائية والتفسيرات المُضلِّلة وما يتفرع عنها من تشويه وتحريض وكراهية، وستفرض هذه الأزمة أثمانها الباهظة في نهاية المطاف من أرواح البشر وكرامتهم وحقوقهم، وقد لا يحظون وقتها بالمنسوب ذاته من البكائيات تبعاً لتحيّزات مسبقة قد تنتهي بلومهم وازدرائهم فوق جراحهم وآلامهم.
إنّ من خذلان الضحايا الأبرياء في كرايست تشيرتش أن يتمّ عزل المجزرة الوحشية في نطاق مقترفها المباشر، وإن ظهر وحده في المشهد المصوّر، أو أن يتواطأ العالم في ردود أفعاله على إعفاء صناعة الإسلاموفوبيا وخطوط إنتاجها النشطة، وجمهرة الضالعين في التحريض والتشويه؛ من أي مسؤولية كانت عن إذكاء خطاب التطرّف العنصري الذي أجّج دوافع العدوان؛ وأغرى بالفتك بالبشر على هذا النحو المشهود بالبثّ المباشر.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.