في جمعة 22 فبراير 2019 عندما كانت البشرية منشغلةً مع نقاطٍ ساخنةٍ من المعمورة، لم يكن يتخيل العقل الإنساني بكل أطيافه وأعماره أن البشرية على موعد مع الإنسان الجزائري في جغرافيا الجزائر، يعطيها درسا في كيف تثور وسلاحك السلمية الواعية المتحضرة!؟ إنها الجزائر وهي تتزين بلون السلام الأبيض وتصيح في وجه الاستبداد أن قد آن أوان الطوفان البشري الذي يُزيح الظلم بلا رجعة. إنها الخضراء الجزائر وهي تتباهى بلونها الأخضر وتصرخ في وجه الظلم أن شبابي أولى بي منكم وأنتم قد ضيعتم الأمانة. إنها الجزائر وهي تتحلى بلونها الأحمر من دماء الشهداء صارخة في وجه الفساد أن أرواح شهدائي حاضرة اليوم تحلق في سمائي أن ما لهذا حررناكم!
في كل جمعة تمتزج دموع العجائز بصرخات الشباب بزغاريد الحرائر بدعوات الشيوخ لينطلق شعاع الحرية محلقا في سماء الجزائر أن تحيا أرض الشهداء مجتمعة موحدة في وجه الفساد والظلم والاستبداد. لقد اجتمعت الجزائر على كلمة سواء وتوحدت على مطلب شرعي وانطلقت تكتب عزتها وكرامتها وسؤددها على جبين التاريخ بمداد من ذهب. لقد شهدت الجزائر وتميزت عن غيرها من البلدان القريبة والبعيدة بمسيرات أبهرت العالم في سلميتها ووعي وتحضر شبابها. لقد مضت الجزائر بخطوات متسارعة إلى الأمام وسلاحها في ذلك اجتماع كلمتها ووحدة مطالبها في تغيير نظام أجبر أبناءه على الهروب إلى أوروبا في قوارب الموت ليأكلهم الحوت لا الدود، فكانوا من أكبر محركي الحراك وهو فداء لهم أيضا.
إن هذه المرحلة التاريخية الحرجة المفصلية التي قد تكون منعرجا حاسما يحوِّل مسار الجزائر من دولة أفراد في المكاسب وشعب في الغبن والمصائب إلى دولة عدل وقانون وحرية وديمقراطية لا ظلم فيها ولا اعتداء، لتستوجب الخوف على الحراك الشعبي من مارد الفرقة والاختلاف، مارد لا يحضر في ظني إلا بتعويذتين اثنتين أولاهما الشعارات المفرقة وثانيهما تمثيل الحراك الجامع بشخصيات متفرقة.
النجاح المرحلي للحراك الشعبي الذي يقوده الشعب الجزائري لا يقتصر الفضل في تحقيقه على الشعب فحسب، إنما للجيش الذي هو من صلب الشعب الدور البارز العميق في وصوله إلى هذه المرحلة المتقدمة غير النهائية |
يا شعب الجزائر الأبي إنه ليغيب النصر إذا غابت أسبابه. فلا يخفى على عاقل حاضر بروحه وجسده في معاناة الجزائر ومسيرات الجمعة أن من أكبر أسباب النصر الأولي المرحلي الذي شهده الحراك الشعبي هو وحدتنا واجتماع كلمتنا وأهدافنا في اقتلاع جذور النظام بتغييره وذهابه دون رجعة. فمتى ما غاب هذا السبب تلاه غياب النصر لا محالة. تعددت الجُمعات فبدأت الشعارات تكثر والرايات تزيد وشيطان الفرقة يتهيأ. ليس الوقت يسمح بشعارات تفرق وحدتنا ومطالب لم يحن أوانها وتصرفات قد تدفع ثمنها أجيال وراء أجيال من بعدنا. لقد ظهر من يرفع شعارات غريبة عجيبة لا الوقت ولا المرحلة تسمح بها. سمعنا من جهة صرخات -حراشية دولة إسلامية- ومن الجهة المقابلة -فدرالية أمازيغية- فخشنيا أن يلعب الشيطان لعبته ويركب وجنده الحراك ويبدأ مشروع تهديم الوحدة التي حيّرت إبليس في الجزائر فنخسر الهدف الذي وحَّدنا وهو تغيير نظام حكم عقودا من الزمن. إن الواجب الوطني والمسؤولية التاريخية يستوجبان على الجزائري الحر محاربة هكذا تصرفات أيا كان مصدرها.كما أن ردة الفعل لا يجب أن تكون بمواجهتها بتصرفات مماثلة أو ردَّات فعل متحمسة، إنما بغرس الوعي في المسيرات بضرورة المحافظة على الوحدة ومحاربة كل أشكال الفرقة والانقسام والتركيز على المطلب الموحد للشعب وهو تغيير النظام القائم والإكثار من اللافتات التي تجمعنا لا التي تفرقنا. إن المرحلية والتدرج في المطالب مطلب استراتيجي فكيف بنا ننقسم والأزمة بعمقها لا تزال قائمة!
إنه لخطأ استراتيجي فادح أن يكون لهذا الحراك الذي جمع ملايين الجزائريين ممثلون عنه. لأنه من أمحل المحال أن تمثل كل التيارات السياسية والاتجاهات الفكرية والتوجهات الفردية في شخصيات محددة تُعدُّ على رؤوس الأصابع. كما أن طرح هذه الفكرة قد يفتح باب الفرقة والاختلاف. فكل صاحب فكرة وتوجه سيطرح ممثله فإن قبل فذاك مراده وإن لم يقبل خرج على الممثلين للحراك وقال لا يمثلوني لندخل في دوامة من يمثل من! التي ستقودنا بدورها إلى أن الحراك مقسم لا ممثل حقيقي له. وهذا مبتغى النظام ومراده.
وللباحث عن الفكرة أو الاستراتيجية أو الآلية البديلة فقد تكون في أن تقوم حكومة تكنوقراط انتقالية تقودها كفاءات من رحم الشعب وحراكه تمضي بالمرحلة إلى انتخابات ديمقراطية تكون خاتمة خير على الجزائر وحراكها. لقد طُرحت قوائم عديدة لممثلين عن الحراك ولم تسلم قائمة من النقد والتجريح. أليس هذا بدليل قاطع على أن فكرة تمثيل الحراك قد لا تكون صائبة وأنها قد تمضي بالحراك إلى مقتله لا قدر الله! إن القائد الأكبر والممثل الأوحد للحراك الشعبي الجزائري العظيم يتلخص في ثلاث كلمات أثبتت حضورها وتأثيرها العميق من بداية المسيرات إلى آخر جمعة شهدناها وهي وعي، سلمية، حضارية، ولو تشبث بها الشعب الجزائري دون غيرها من الشخصيات وزوَّدها بالصبر قوةً لأدرك مراده ولو بعد حين.
إن النجاح المرحلي للحراك الشعبي الذي يقوده الشعب الجزائري لا يقتصر الفضل في تحقيقه على الشعب فحسب، إنما للجيش الذي هو من صلب الشعب الدور البارز العميق في وصوله إلى هذه المرحلة المتقدمة غير النهائية. إن القيادة العليا للجيش الوطني وكل جندي جزائري وطني صادق مخلص يُشهدون ماضي شهداءنا وحاضر شبابنا ومستقبل أبناءنا أنهم وقفوا في صف الشعب عندما استحق الشعب الوقوف في صفه. كما أن مكسب انحياز الجيش لنا يجب أن نحافظ عليه لأن النصر حليف تلاحم القيادة النخبوية بالقيادة العسكرية في عالم ثالث للعسكر كلمته الأولى والأخيرة. ولنا في عديد الدول العبرة والعظة. فيا جيشنا الوطني تسميةً وروحًا أنت الأمل بعد الله فلا تخذلنا.
إنها مرحلة تاريخية حاسمة استوجبت اجتماع كل الطاقات الجزائرية على كلمة واحدة تغذي الحراك بطاقة إيجابية تمضي به إلى مستقبل هو صانعه. مستقبل أين توجد جزائر إقليمية بسيادتها المطلقة قائدة لا منقادة يفتخر بها شهداؤها الذين ضحوا بالأمس وأحفادهم الذين يستكملون مشروع التضحية اليوم ليعيش فيها أبناؤها تحت ظل دولة تامة الاستقلال، تامة الاستقلال، تامة الاستقلال.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.