شعار قسم مدونات

"إن شاء الله" تشكونا إلى الله

blogs حوار

في الأسابيع الماضية كانت لي لقاءات ومواعيد مع مخرج إيطالي للتنسيق بشأن مشاركة الجالية المغربية في المهرجان الثقافي "الموسيقى لغة الشعوب"، الذي يقام في الدوحة هذه الأيام.

  

خلال لقاءاتنا حرص الرجل على مناقشة التفاصيل وابتغاء الدقة وعدم ترك أي منفذ للصدفة أو الارتجال، فهو المسؤول عن إخراج الحفل ويهمه أن يظهر في أبهى حلة وأجمل منظر، وبدا حريصا على ترتيب أدق التفاصيل، وعلى تفادي أي شيء من شأنه أن يؤثر بشكل مباشر أو غير مباشر على سير الحفل ونجاحه.

  

ناقشنا البرنامج ومضامين الفقرات التي سنشارك بها، والأشكال المقترحة لإخراجها، واللوازم والعدة التقنية التي سنحتاجها، إلى غير ذلك، وفي كل مرة يطلب مني أن نوفر شيئا أو نعدل شيئا، أو نقدم شيئا أو نؤخر شيئا، أسجل طلبه على مذكرتي وأقول له "إن شاء الله سنوفره"، أو "إن شاء الله سنفعله".

  

لو دعانا أحدنا إلى وليمة وكان يريدنا أن نحضر على الساعة الثامنة ليلا فإنه يخصم منها "الضريبة على التأخر المضاف"، فيخبرنا أن الموعد هو الساعة السابعة ليلا، ومن ثم نفهم نحن أن الموعد الحقيقي هو بعد ساعة من الموعد المعلن

وكلما كررت عبارة "إن شاء الله" في أجوبتي لاحظت على وجه الرجل وملامحه تغيرا، يتدرج من الامتعاض وتقطيب الجبين إلى ابتسامة فاترة ونظرات لا هي بالمستغربة ولا هي بالمعاتبة.

  

وفي اللقاء الثالث بيننا سألته "سيد إيجالي، هل تعرف معنى عبارة إن شاء الله؟ أتعرف ماذا نقصد بها؟"، وسبقت الجواب إلى شفتيه ابتسامة صوب معها عينيه في عيني وقال "سيد محمد، نعم هذه من العبارات العربية التي أعرف معناها جيدا، بل أعرف أن لديها معنيين".

 

بادلته الابتسامة بضحكة خفيفة ومضيت في السؤال "معنيان؟ كيف؟"، ثم أجاب: لقد عاشرت العرب منذ 22 سنة، في أوروبا وفي العالم العربي، وعرفت من خلال التجربة أن هذه العبارة لها معنيان في ثقافتكم وسلوككم، المعنى الأول معنى جاد يفهم منه أن الأمر سينجز، والمعنى الثاني يقصد به التهرب وترك الباب مواربا لإيجاد مخرج في حالة عدم الوفاء بما تم الاتفاق عليه، وتعليق ذلك على مشجب إرادة الله.

 

ذهب الرجل أبعد من ذلك وأفهمني أنه من بين الأمثال الشعبية العربية التي حفظها ويعجبه دائما أن يستدل بها عن حال العرب وثقافتهم، ذلك المثل الشعبي القائل "من برا الله الله ومن جوا يعلم الله".

 

صرت بعدها في كل مرة أذكر أمامه عبارة "إن شاء الله" أتبعها بابتسامة أو ضحكة خفيفة وأؤكد له أني جاد ولست أبحث عن مشجب سماوي أعلق عليه تهربي أو عدم قدرتي على توفير المطلوب.

 

ودعته في ختام ذلك اللقاء وفي نفسي شيء من المرارة والغصة والحسرة على هذه الازدواجية الفاقعة التي ارتسمت صورتها في ذهنه عنا معشر العرب، ومضيت أتخيل كم من الصور السلبية التي رسخناها في ذهنه وذهن غيره ممن تعاملوا معنا من الأوروبيين وغيرهم.

 

فكثير منا يهتمون بنظافة بيوتهم لكنهم يوسخون شوارع وطرقات مدنهم بكل أريحية ودون أدنى وخز من ضمير، ويحرصون على سلامة ممتلكاتهم الشخصية ويحافظون عليها ويموتون دونها، لكنهم يدمرون الممتلكات العامة ولا تعني لهم شيئا.

 

سنبقى كما نحن وحيث نحن ما دمنا نحاسب أنفسنا بمعايير غير تلك التي نحاسب بها الآخرين، وما دمنا نجيز لأنفسنا ما نمنع منه الآخرين

وكثيرون منا تتطاير شرارات الغضب من عيونهم وتنتفخ أوداجهم وتبرز عروقهم وتعلو أصواتهم إذا تقدم عليهم أحد في الطابور دون وجه حق، ويمطرونه بالعظات والدروس عن النظام واحترام الآخر ونبذ الأنانية، لكن كل هذه العظات تتبخر وتندثر ولا تمنعهم من ارتكاب الفعل نفسه في أقرب مناسبة يرون فيها أن هناك "ضرورة ومصلحة شخصية" توجب ذلك.

 

نحن قوم نستبطن دائما نية التأخر عن مواعيدنا فنقدمها بوقت كاف يسمح لنا بالحضور متأخرين من دون أن نحس بالذنب ومن دون أن يعاتبنا أحد، فنصل دائما في الموعد لكن متأخرين.

 

فلو دعانا أحدنا إلى وليمة وكان يريدنا أن نحضر على الساعة الثامنة ليلا فإنه يخصم منها "الضريبة على التأخر المضاف"، فيخبرنا أن الموعد هو الساعة السابعة ليلا، ومن ثم نفهم نحن أن الموعد الحقيقي هو بعد ساعة من الموعد المعلن، ونتمتع بحقنا في التأخر.

 

نحن قوم يرغي أحدنا ويزبد ويسب وينهر إذا دخل مرحاضا عاما فوجده متسخا بنجاسة غيره، ويصف هذا الغير بأقذع النعوت لأنه لم يكلف نفسه ضغطة زر لصب الماء، لكنه لا يستقبح أن يترك هو المرحاض نفسه متسخا أكثر مما وجده، لأن لديه دافعا أنانيا داخليا يجيز له ما لا يجيز لغيره، ويسمح له بمحاسبة الآخرين بميزان أقسى من الذي يحاسب به نفسه.

 

سنبقى كما نحن وحيث نحن ما دمنا نحاسب أنفسنا بمعايير غير تلك التي نحاسب بها الآخرين، وما دمنا نجيز لأنفسنا ما نمنع منه الآخرين، وما دام كل واحد منا لا يشعر أنه لبنة وسط بناء الأمة، إذا لم تأخذ مكانها الصحيح فستؤثر حتما على البناء كله.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.